الضَّحكة الأخيرة
حسين خضّور حسين خضّور

الضَّحكة الأخيرة

لا شكّ بأنّ شيئاً ما يتلاشى من الفكاهة الشعبية المنطوقة وتحديداً تلك الحديثة منها، عندما تُكتب بالفصحى. لكن بشكل أو بآخر تفتح لنا المجالَ للتفكير بدلالاتها، وهذه الأخيرة قد تطوّرت مع تكثّف الأحداث اليومية واشتداد محنة البشرية في دفاعها عن ذاتها أمام محاولات المنظومة الرأسمالية الاحتكارية في تضييق بنيتها إلى الحدّ الأقصى، بعدما دخلت أزمتها العميقة الشاملة والنهائية، مما دفع بالضرورة بفلسفة الفكاهة الشعبية إلى الدخول في تحوُّل نوعيّ يميل بحسّه الفكاهي للتعبير عن هدف سياسي محتواه اجتماعي. وربما يكون أحد نماذج ذلك التحوّل النوعي هو النكتة في هذه المادة الصحفية.

- يا أخي ركّز بشكل جيّد على هذه النكتة: ما هو الفرق بين مثقَّفٍ شعبويّ سقَطَ من سطح صفيحِه الساخن، ومثقَّفٍ نخبويّ سقَطَ من سطح صفيحه المتجمّد؟
- هل يمكن أنْ يتغيّر لديكِ حسُّ الفكاهة من أسلوب السؤال والجواب؟
- أفهم من ذلك أنكَ لم تسمع بهذه النكتة من قبل، ولا تريد أنْ تفكّر بالإجابة.
- كما تريدين يا أختي، لا أريد التفكير، ما هي الإجابة؟
- أثناء سقوط المثقَّف الشعبويّ صرَخَ بتشدّد، وبعدها أدركَ بحاسّة الأذن صوتَ اهتزاز الأرض من تحته، فهجم على البناء لتحطيمه بدافع الانتقام. أما المثقَّفَ النخبوي فقد أدرك بحاسّة الأذن صوتَ اهتزاز الأرض من تحته بعدما سقط، وبعدها صرخ بتشدّد، وهجمَ على الأرض لتحطيمها بدافع الانتقام.
- أين النكتة؟
- فكّرْ قليلاً.
- آه ها حسناً نكتة لا بأس بها.

البرابرة يتهكّمون

لم تعد تلك الحالة مؤقَّتة عند سماع أصواتٍ من الشارع تتهكّم بحدّة على فئة مثقَّفة نخبويّة، وأخرى شعبويّة ضاقتْ بهما الأحوالُ بعد انهيار بناء المجتمع، وتلاشي فقاعة المعرفة التي كانوا يعيشون بداخلها في مثالية ذاتية مفرطة. ويمكن ملاحظة التحول النوعي الذي طرَأَ على الحسّ الفكاهي الشعبي المتلمّس للاختلافات بين الثقافة الشعبية والنخبوية من جهة، والثقافة الشعبوية من جهة ثانية، على أنه أصبح حساً فكاهياً لاذعاً محتواه في مطارح عدة يعبر عن أنّ الناس العاديين استوعبوا منذ فترة طويلة هَول الحدث قبل فئة النخبة التي تميل إلى طروحات إصلاحية شكلية، وفئة شعبوية تميل بالدفع إلى ثورة فوضوية. لكنّ تكثّفَ الأحداث كشفتْ لشريحة واسعة من الناس أنَّ الفئتَين وجهان لعملة واحدة، وذلك من خلال سماع ردود أفعالهما في أكثر من مناسبة على تهكُّم الناس العاديّين عليهما، فكلتاهما تنظران إلى ضحكة الناس على أنها أصواتٌ بربريّةٌ ناتجةٌ عن الجهل والتخلف، فتراهما فئتين مثقَّفَتين متشنّجتَين بنظرتهما، مضطربتَين بأفعالهما على أرض الواقع، لتحقيق رغبة قوى المال (عن وعي أو من دونه)، لتضييق البنية التحتية إلى أقصى الدرجات الممكنة للوصول إلى تدميرها بشكل كامل، وكأنّ مقولة دوستويفسكي في رواية «المراهق» تصفُ حالَ أفعالهما المراهقة تلك: «إنّ الواقعية التي لا ترى ما هو أبعدُ مِن الأنف أشدُّ خطراً من الخيال الجامح المجنون لأنّها عمياء».

ضرورة تعزيز الترابط وعدم الدفع بالتطابق بين القوى الثورية والحركة الشعبية

يمكن القول إنّ الوقت أصبح أنضج أكثر فأكثر لعودة الأجسام إلى أحجامها الطبيعة، وتحديداً بعدما تكشَّفَت حالةُ المثقَّفين (النخبويّين - الشعبويّين) بعد مرور حوالي العشرين سنة على غزو دولة العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية مع أتباعها، والمواقف اللاحقة التي نتجت عنهما ضمن تفاعلهما مع كامل أحداث العالم بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص، والقضية الفلسطينية بالتحديد. لذلك نعتقد أنّ الحاجة قد وصلت إلى أقصى درجات الضرورة، وبدأت تدفع أكثر بحلّ المسألة الأساسية في اللحظة الراهنة للوصول إلى أعمقِ ترابطٍ عضويّ وأعلى درجة من الاستقلالية بين الحركة الشعبية والقوى الثورية التي تستطيع بأدواتها العلمية صقلَ التجربة الملموسة للناس بتفاعلها مع مجمل التغييرات في البنية التحتية، ومن خلال مكوّنات البنية الفوقية تستطيع المساهمة بالدفع في الاتجاه الثوري لتغيير النظام العالمي جذرياً، وتعزيزُ هذا الترابط والاستقلالية النسبية يأتي من خلال الاستمرار بالعمل الدؤوب في عملية التفاعل الديناميكية بين بُروز القوى الثورية على الساحة العالمية وتحمُّل مسؤوليَّتها في قيادة الحراك الشعبي العالمي، وبين غَربلة الحركة الشعبية لبقايا الطفيليّات العَدَميّة الناتجة عن فترة تراجع الحراك الشعبي العالمي، والشَظايا الناتجة عن تدمير النسيج الثقافي للمجتمعات البشرية من قبل ممارسات شريحة واسعة من مثقفين (نخبويّين - شعبويّين) كانوا وما زالوا مرتبطين عضوياً مع الرأسمالية الاحتكارية. «فلا يمكن لأيّة قوة من قوى الظلام أنْ تصمد أمام تحالف العلماء والبروليتاريا والتكنولوجيّين» (فلاديمير لينين).
العمل على تطبيق مقولة لينين باللحظة الراهنة يتطلّب جانباً عالياً من الإبداع. فإنّ إنجاز تلك المهمّة الشاقّة ضمن المنظور القريب، يعني أنَّ مصير الحركة الشعبية العالمية في طورها الجديد هو النصر بلا منازع مع ضحكة أخيرة ونظرة سينمائية ملحميّة إلى قصاصةِ ورقٍ وُجِدَتْ في جَيب المخرج المسرحيّ الراحل فوّاز الساجر (1948 – 1988)، كَتب فيها أبلغَ تعبير عن عصر الرأسمالية الاحتكارية: «عصرنا هذا عصرُ الضِّيْق، أكلُنا ضيّق، شرابنا ضّيق، زيّنا ضيّق، مسكننا ضيّق، أفقنا ضيّق، عدلنا ضيّق، عالمنا ضيّق، مصيرنا ضيّق، موتنا ضيّق... الضِّيق الضِّيق! افتحوا الأبواب والنوافذ... سيقتلنا الضِّيْق! افتحوا الأرضَ والسماء... سيقتلنا الضِّيْق! افتحوا الكون».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1106
آخر تعديل على الإثنين, 23 كانون2/يناير 2023 10:58