«تطبيع» الانتحار... والتعدّي على قدسية الموت والحياة
يكاد لا يمرّ يوم على أحدٍ منّا دون أن يسأل نفسه تلك الأسئلة الوجودية المتعبة، من قبيل: ما الذي أنجزته اليوم؟ ما هو مسار حياتي مستقبلاً؟ وما الذي يمكنني فعله لأصير «أحسن»؟ لتنتهي سلسلة الأسئلة وسط الظروف السيئة المحيطة من دون إيجاد أجوبة حقيقية وشافية. ولكنّ هذه الأسئلة قد تقضّ مضجع البعض إلى الدرجة التي يصبح الخلاص منها مرهوناً بالخلاص من الذات بشكلّ كلّي! لتخيّم بعدها أفكار العدمية والسوداوية على مجمل حياة الفرد، وتصبح فكرة «الانتحار» تجول وتصول إلى أن تسيطر على البعض في نهاية المطاف وتنتصر.
حرية الموت!
قد لا تكون فكرة الانتحار غريبة، خصوصاً لمن عايش ظروفاً معيشية صعبة، أو لمن عانى من الصراعات العقيمة مع الذات التي تسعى دائماً إلى الوصول إلى درجات أعلى من التقييم، ولا سيما في ظلّ التنافس الشرس الذي تخلقه المنظومة العالمية القائمة على تمجيد الأفراد «الناجحين» وفق كاتالوك محدّد ووصفات جاهزة لمعايير النجاح. فسوء تقدير الذات - الذي قد يصل في بعض المراحل إلى كرهها والسعي إلى التخلص منها - يفعل فعله وفق مجموعة غير منتهية من الأسباب، ولعلّ أهمها الوضع المعيشي الاقتصادي السيء الذي يمنع الكثيرين من الوصول إلى أهدافهم وتحقيق طموحاتهم، ولكن الغريب في الأمر ليس مشكلة «اللجوء إلى الانتحار» بحدّ ذاتها، بل تسهيلها والتعاطي معها من منطلق ليبرالي يدّعي أنّ الإنسان حرّ في اختياراته: إذا أراد الحياة فليحيا، وإذا أراد الموت، يا مرحباً... فقد هيأنا له العدة!
كبسولة الانتحار
في العام 2021 تمّ اختراع آلة على شكل تابوت في سويسرا حملت اسم «جهاز ساركو»، وحصلت على جميع التراخيص لتصبح قانونية بالكامل ومتاحة لأي شخص يرغب بالموت، من دون تدخّلٍ للأطباء أو المعنيين، وسط اعترافٍ وقح وعلني لمخترع الآلة حول نية الشركة المصنّعة بنزع الطابع الطبّي من عملية الاحتضار، واحترام خيارات الأفراد بالحياة أو الموت! مبدأ الآلة يعتمد على إطلاق غاز النتروجين بعد دخول الشخص إليها، لتنخفض نسبة الأوكسجين من 21% إلى 1% خلال خمس إلى عشر دقائق فقط. وقبل اختراع الجهاز كان هنالك العديد من المنظمات ومراكز «المساعدة على الانتحار» والتي ساعدت حوالي 3000 شخص على الانتحار خلال العام 2020. منها منظمتي Exit International و Dignitas التي تأسست منذ عام 1998، والتي تقدّم نفسها بأنها تساعد فقط في الحالات الميؤوس منها طبياً، علماً أنّ «المجلة الطبية البريطانية» قد نشرت تحقيقاً في العام 2005 يكشف مساعدة المنظمة لامرأة سليمة طبياً على الانتحار.
الغرب والرفاه الاجتماعي والانتحار
يبدو من اللافت للانتباه انتشار فكرة الانتحار، وتسهيلها للحدود القصوى في البلدان التي تعتبر متقدمة من الناحية الاجتماعية، وهذا ما يدفع للتساؤل حول الدوافع التي تؤدي بالفرد إلى اتخاذ قرار كهذا. ولكن الصورة تصبح واضحة أكثر حين ننزع عن أعيننا النظارات الملوّنة التي ترينا الأشياء الجميلة فقط في تلك البلدان، ونعاين بدقة الأزمات التي راكمتها الرأسمالية على مدار سنوات في نفسيات الناس وحياتها، فإذا ما غضضنا البصر عن الأزمات المستجدّة للشعوب الأوروبية والتي طالت معيشتهم بشكل مباشر، وأثرت بالطبع على خياراتهم بالموت أو الحياة، فإن أزمة نفسية عميقة تكرّست عبر تعميق الاغتراب عن الذات والمجتمع وتمجيد الفردانية وتذرير الناس وجعلهم «وحيدين»، وقد ساهمت الأفكار الليبرالية كثيراً في تعزيز هذا الاغتراب، عن طريق نشر الأفكار القائلة بأن الفرد يمتلك بمفرده القدرة على التطور بغض النظر عن الظروف، ويستطيع التحكم بمصيره، إضافةً إلى الأوهام حول إمكانية العيش في مستقبل مزهر وجميل، ليأتي هذا المستقبل ويطحن تحت قدميه كل هذه الأحلام الوردية، فمع تفاقم أزمات الرأسمالية بدأت هذه الأحلام تصطدم مع حقيقة أن هذه المنظومة ولشدة استغلالها واستنفادها لموارد نهبها، لم تعد تؤمن للجيل اللاحق ما حظي به الجيل السابق، وهذا ما زاد الإحباط والاكتئاب.
الإعلام كأداة للترويج
«إذا كانت الظروف مهيأة لك لتفكر بإنهاء حياتك، فيمكننا أن نساعدك ونصل إليك من دون أن تتكلف عناء الذهاب إلى منظمات ومراكز متخصصة» يبدو أن هذا هو لسان حال بعض الشركات التي تستغل الإعلام كأداة للترويج لفكرة الانتحار، فمنذ حوالي الشهرين قامت شركة أزياء كندية تدعى La Maison Simons بإعلان حمل اسم «All is beauty» يتحدث عن «الجمال» في الموت الرحيم الطوعي euthanasiaلمريضة تعاني من متلازمة إيلرز دانلوس. ورغم أن الحديث عن «الموت الرحيم» يحمل جوانب عديدة ومثيرة للجدل، ورغم أنّ الموقف منه قد يتغير بحسب الحالة، ولكن استخدامه في الدعايات والترويج له بهذا الشكل أثار سخطاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي داخل كندا نفسها. ما يضع علامة استفهام كبيرة أمام دور الإعلام وأدواته في محاولة التأثير وقدرته الفعلية على التأثير في آراء الناس ومواقفها، عبر اللعب على العواطف خاصّة في مواضيع حساسة كهذه، فالإعلان «المشحون عاطفياً» بمشاعر وقيم سامية كالحب والجمال يخترق قدسية الموت الذي يعتبر حدثاً طبيعياً، ليصبح حدثاً «جميلاً» ومليئاً بالحب!
الموت كـ«سلعة»
فكم من شخصٍ مصاب بمرض الاكتئاب ولكنه سليم من الناحية الجسدية ستدفعه مثل هذه الإعلانات إلى الانتحار؟ وكم من شخص قد يقع ضحيتها رغم إمكانية مساعدته على العلاج والتعافي من الاكتئاب غير المترافق بأمراض جسدية قاتلة؟ ليصبح من الجائز القول بأنّ المنطق بهذه الحالات يميل إلى «تطبيع» الاكتئاب تحديداً و«تجميل» أخطر عواقبه التي لطالما كافح الطب النفسي من أجل حماية المرضى منه: الانتحار. وحتى عندما يكون الاكتئاب ناجماً عن (أو مترافقاً مع) أمراض جسدية خطيرة وقاسية مثل السرطان، أليس جزءاً من علاج الاكتئاب والسرطان معاً هو ذلك العلاج الذي يعتمد الشدّ من عزيمة المريض وتقوية معنوياته وتمسكه بالحياة؟ أولم ينتصر كثير من المرضى بالفعل عليه بفضل الدعم النفسي وعزيمتهم التي انعكست إيجابياً على جسدهم؟ وبالتالي كم مريضٍ تحرمهم الدعاية التجارية لاستسهال القتل «الرحيم» والاستسلام للموت، من قيمة إنسانية أعلى بكثير من الخنوع الذي يدرّ أرباحاً على هذه الشركات: قيمة النضال من أجل الحياة. على عكس الصورة التي تحاول شركات «الموت الرحيم» المأجور إظهار نفسها بها من وجه «إنساني»، فإنّ دوافعها الربحية شديدة الوضاعة بهذه الحالة لأنها بلا شك تستغل أشخاصاً لم يعد يهمّهم أن يدفعوا كل ثروتهم ليحصلوا على «البضاعة» التي تقدمها لهم: الموت!
إذاً ما يتم الترويج له على أنّه حريّة وخيارات شخصية ليس في نهاية المطاف سوى سلعة رخيصة تُعرض على أولئك الذين ذاقوا ويلات الحياة، ولم تبقِ لهم ظروف الحياة من خيار سوى الموت. ليكون هذا «الترياق» الأخير لدى الرأسمالية للمشكلات التي كانت هي المسبّب لها أصلاً، ليصبح السؤال حول الفرق بين الشركات والمنظمات التي تسهّل عمليات الانتحار وشركات تصنيع السلاح الكبرى مشروعاً، فكلاهما يصلان إلى النتيجة ذاتها: قتل البشر والقوى المنتجة على حساب إنعاش الرأسمالية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1106