حربُ قنّاص: نظرتان عن العالم تتصارعان وضرورة المشروع الشامل

حربُ قنّاص: نظرتان عن العالم تتصارعان وضرورة المشروع الشامل

في قلب نقاش طبيعة المرحلة ومصيرها، أي منطقها الداخلي المحكوم بتناقضاته التاريخية، يوجد موقفان يحددان طبيعة الانتقالة الحاصلة. وهذا النقاش يتداخل بشكل عضوي مع الموقف من مصير الرأسمالية عالمياً. الموقف يقول بالذهاب نحو عالم متعدد الأقطاب، والموقف الآخر يقول بمصير تجاوز الرأسمالية، مروراً بمرحلة اختلال الهيمنة التي تأخذ شكل توزع مراكز «التأثير» مؤقتاً. وهنا سنحاول مجدداً الإضاءة على مسألة السرديات الضرورية والتي تُخرج النقاش من طبيعته الاختزالية الجبرية والميكانيكية.

في تعقيد البنية الإجتماعية

مرة جديدة، كان من شروط المناورة التاريخية التي قامت بها الرأسمالية في منتصف القرن الماضي هو محاولة تعطيل حركة القوى الاجتماعية التي اقتحمت مسرح التاريخ في النصف الأول من القرن نفسه. والتعطيل هذا كان في تقديم تنازلات محددة اقتصادية اجتماعية، ولكن كان هناك أيضا تقديم الصورة الليبرالية عن العالم، والتي وعدت البشرية بالسعادة الفردية والحلم الليبرالي. وإذا كانت القاعدة المادية لهذا النموذج انتهت عملياً بسبب أزمة النموذج الرأسمالي، فإن «الحلم» نفسه تحول إلى كابوس. وبالتالي فإننا اليوم أمام حالة انتقالية اقتصادية وبالضرورة على مستوى الوعي. وإذا كان لينين من قال بأنه لا يوجد نموذج ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية، فإن الانتقال هو بالضرورة محكوم بإحداثيات هذين النموذجين المتصارعين. ولكنه ليس صراعاً وحيد الجانب، بل هو يدور حول عالم مختلف، على مستوى علاقات الإنتاج وعلى مستوى الوعي والموقف من العالم ومن الذات ومجمل القيم والمعاني والأخلاقيات والأفكار.
استحقاقات

الانتقال الداخلية والعالمية

إن كان النقاش حول الأزمة الاقتصادية للرأسمالية كان قد بدأ يأخذ حقه في السردية والنقاش العالمي خلال العقد الماضي، فإن نقاشاً جديداً اقتحم المشهد العام وسيتوسع أكثر وأكثر، تحت عنوان «الأزمة الحضارية» للغرب. وإن كان يتمركز اليوم حول قضايا معينة ومنها «الهويات الجنسية» مثلا والتي تعمل كواجهة لصراع تدمير عناصر الدفاع الإجتماعي عن المصير، ولكنه في الجوهر أزمة الموقف من العالم ككل. فأزمة الفكر الرأسمالي اليوم، والذي شمل العالم كله في العقود الماضية تتحول إلى فكر انتحاري تجاوز الفاشية السياسية نحو انحدار إلى مستوى تحطيم ما هو إنساني. وهذا تكثيف لكل القيم والمقولات والممارسات التي عملت قوى رأس المال على نشرها والتأسيس لها اجتماعياً، ولكنها اليوم تأخذ ذروتها. ويمكن إجمالها بعناوين عامة. منها مثلا إلغاء المستقبل، مما يعني إلغاء العقل الإنساني نفسه، من خلال تجفيف مصادر الأمل والدافعية وغيرها من شروط عمل العقل والفكر والإبداع. وهذا يستتبع حكما عناوين تدمير القضايا وتفريع «اليوتوبيا» ومسخها. مما يستتبع حالة بربرية مفرغة من أية قيمة حية، فالقيم تستند إلى حالة ممارسية ومشروع حياتي. وغياب هذا المشروع ينحدر بالعقل إلى مستنقع متموت، وهذا هو الموت الروحي النفسي بالضرورة، ومعه موت كل أشكال الحياة العقلية والفنية والعلمية...إنها أزمة البنية الفوقية لعالم اليوم والتي تعبّر عن نفسها في كل هذه الميادين وفي حياة الناس اليومية. عالم اليوم، والمقصود هنا المشروع الثقافي المهيمن، يتوتر بين كونه بلا «قضايا كبرى» على مستوى الوعي، وبين كونه حاملاً موضوعياً لهذه القضايا. وهذا الغياب النسبي، أو بالأحرى الذي لم يأخذ بعد شكله المتكامل والمتناسب مع طبيعة هذا الانتقال نحو تصور جديد عن العالم ومشروع حياتي وثقافي نقيض للمشروع المأزوم الراهن، هذا الغياب هو مصدر حرمان الحركة التاريخية التقدمية عالماً من طاقتها الكامنة التي يجب تحويلها لصالح الحركة السياسية. وعدم القيام بذلك يعني تحويل تلك الطاقة إلى مصادر خطر وتدمير لصالح القوى المعادية للحياة اليوم. وإن كان الموضوع يحتاج إلى مساحة خاصة به، إلا أن «المناوشات» التي حصلت في الصين مؤخراً حول قضايا الإغلاق الناتج عن سياسات التصدي لانتشار كورونا، وتحول الاحتجاج إلى موقف سياسي من السياسات «الاشتراكية والحزب الشيوعي نفسه» هي مؤشر كنا ذكرنا احتمالات حصوله سابقاً.

حرب قناص: ملامح مكثفة

إن الصراع في الدونباس وكل السردية المتصارعة حوله عالمياً يمكن اعتباره في الجوهر تكثيفاً للمواقف المتصارعة حول العالم وإن لم تتحول بعد إلى حالة متبلورة لها ملامحها الواضحة في السرديات المتصارعة. فكون الفاشية والطاقة وهيمنة الغرب والصراع الثقافي ومصير روسيا ومعها العالم الذي يولد، كلها تتكثف هناك. وإن كان هذا الصراع على مستوى السرديات يحصل بشكل دفاعي من قبل روسيا، ومعها بقية القوى الحية عالمياً، ولكنه يجب أن ينتقل إلى مستوى المشروع الذي هو نفسه له صورته عن العالم ليس في صيغته الانتقالية والتي لكل طرف الحق في الوجود، بل نحو صيغة تصور عن العالم تعيد ترتيب الواقع بما يتلائم مع ضرورات تجاوز الرأسمالية في المستقبل المتوسط والقريب. ويمكن منهجياً أن نبحث في هكذا طاقة في قبل معركة إقليم دونباس كحالة نوعية يلتقي فيها التاريخ، الذي هو في ذات الوقت شكل «تخفّي» المستقبل الذي نقول بكونه كامناً. ونقصد هنا السردية التي تجاوزت الدفاع عن الأرض والمواطنين في تلك المنطقة ضد «العمليات العسكرية الأوكرانية» منذ 2014، نحو مواجهة التهديد الفاشي والناتو، وتدمير روسيا، والموقف من النماذج الاجتماعية- الاقتصادية. وفلم «حرب قناص» هو وثائقي روسي من إخراج أولغا شيكتر، يعود للعام 2018، ويروي قصة قناص صربي هو «ديكي» يقاتل إلى جانب قوات إقليم دونباس منذ 2014. في الوثائقي يروي «ديكي»، الذي هو عامل بناء سابق، المدافع عن حدود الإقليم، موقفه من الصراع الذي يعود به إلى قصف الناتو لبلغراد، ويحدد القاعدة القيمية والفكرية التي تحكم ربط مصيره الفردي بمصير الصراع ككل، ويظهر في الوثائقي طيف واسع لموقف المقاتلين ومرجعيتهم الفكرية والأخلاقية والقيمية وسلوكياتهم والتي كلها تتجاوز اللحظة نحو التجريد التاريخي للمواجهة مع الرأسمالية، وهنا يظهر وزن الإرث الشيوعي والسوفييتي الذي يشكل الحامل الأساس للطاقة التي تحرك المقاتلين (الرموز السوفييتية، كنظرة للحياة، في مشهد حياة ولغة هؤلاء أكثر من حاضرة في الوثائقي). والوثائقي الذي نال عدة جوائز عالمية تمت مواجهته من قبل السردية المهيمنة الغربية عبر ضرب جوهره الإنساني والتاريخي والتضامني بين الشعوب وتحويل القضية إلى مسألة فرد مضطرب (القناص الصربي) له تاريخ من الأزمات العائلية النفسية والتي حولته إلى «قاتل بارد». إن قضية «المقاتلين الأجانب» في صفوف قوات الدونباس، ولاحقاً في صفوف العملية العسكرية الروسية الخاصة، هي مستوى نوعي خاص يعكس أن المحرك لهؤلاء يتجاوز «الخاص» الروسي-الأوكراني، ويستند في طاقته المحركة إلى ما قلنا إنه تصور عن العالم وقضية كبرى ليست جديدة في التاريخ، إنها قضية مصير الشعوب والأممية والموقف من المستقبل ونمط الحياة ككل. وهؤلاء المقاتلون القادمون من كولومبيا والمكسيك والولايات المتحدة وإيطاليا وصربيا وغيرها من الدول هم نموذج مكثف للكامن في الصراع اليوم، والذين يشكلون عينة على ما يمكن أن يكوّنه المشهد في حال تطور الصراع إلى مستوى مشاريع للبشرية تتجاوز الدفاع نحو طرح عالم جديد لا يعيد الماضي بشكل نسخ، بل يعكس فيه الرغبات الاجتماعية والأزمات التي تطورت في قلب الليبرالية. أي «بكل بساطة»، تجاوز نمط الحياة الرأسمالية نحو نمط اجتماعي «إنساني» سمي بالاشتراكية، وإطلاق طاقات الحياة الكامنة وحاجات الناس للوجود الروحي والاعتراف، والتي حولت عامل بناء صربي عادي إلى «بطل شعبي».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1099