أشكال دفاع الحياة عن نفسها: أزمة «البحث في أزمة الإبداع» مثالاً
تحت عنوان «الحياة تدافع عن نفسها» والذي يصلح كتعبير عن الحركة النقيضة للتدمير الذي تقوم به الرأسمالية للحياة على الكوكب، من المجدي الإضاءة مجدداً على تطور حركة الصراع والأشكال التي تأخذها حالياً، بما يتجاوز الاقتصادي الاجتماعي المباشر. هذه المهمة حاصلة ولا شك، ولكن من المفيد إعادة تأطيرها وتحديدها قليلاً، مما يسمح بإبراز المهام بشكل محدد أيضاً، ومنهجياً يجب الانطلاق من تحديد الأشكال التي تأخذها معادلة تدمير القوى المنتجة اليوم.
مجدداً حول مساحات تطور القوى المنتجة
ليس جديداً القول إن التطور الحاصل بعد الحرب العالمية الثانية لـ«التوسيع» الذي قامت به الرأسمالية، من جهة مرغمة، لناحية هوامش حركة الذات الإنسانية عبر وهم «التحقق الليبرالي»، ومن جهة الضرورة التوسعية، لناحية تعميق استغلال الطبيعة وتطوير التكنولوجيات. وهذا التوسيع أدى إلى مساحات وأشكال صراع تاريخية جديدة للتناقض مع الرأسمالية. وبالتالي كان انفجار الأزمة في العقود الماضية أساساً لتطور التناقضات الخاصة بكل مساحة من هذه المساحات والأشكال التاريخية الجديدة التي سلكتها القوى المنتجة في عصر الليبرالية ولاحقاً النيوليبرالية. ولكن هذه المساحات لا توجد منفصلة بعضها عن بعض. فتداخل مساحات توسع حضور الذات الإنسانية مع تعميق استغلال الطبيعة مع تطوير العلم كأساس لتطوير التكنولوجيات تجعل من انفجار التناقضات يجمع ما بين هذه المساحات بالضرورة. ولكن يمكن أيضاً إبراز خصوصيات لوزن كل مساحة على حدة.
العقلي- الجسدي الطبيعة العلم- التكنولوجيا
يمكن إجمال ثلاثة أشكال عامة يأخذها تدمير الحياة اليوم، وهي تدمير العقل والجسد، وتدمير الطبيعة، وتدمير العلم والحرب على التكنولوجيا الذكية (الذي هو شكل خاص من أشكال تدمير العقل، ولكن بطرق أعمق من التدمير الحاصل للبنية العقلية والنفسية لدى العموم، أي في إطار التفكك العقلي الذي أخذ مساحات نقاش سابقة). وكل مساحة تدافع عن نفسها وتتأطر بأشكال للحركة خاصة، فمعاداة الحروب والصراع الاقتصادي- الاجتماعي هي الحركة العامة للحفاظ على النوع من الفناء المادي كتعبير عن تدمير الجسد. أما معاداة التغريب وثقافة الاستهلاك، والحركة المتبلورة تحت قضية الصحة العقلية والنفسية، والدفاع عن التاريخ والثقافة «الأصيلة» الحية، هي بشكل عام التعبير عن تدمير العقل. وفي جانب الطبيعة هناك الحركة التي اتخذت الدفاع عن الطبيعة شعاراً لها، وهي تسلك بصعوبة إلى جدول الأعمال السياسي العالمي (مثالاً قضية الانبعاثات مسبقاً، ومثال مؤخراً البحث في قمة المناخ المنعقدة في شرم الشيخ- مصر والذي أقر مثلاً تعويضات مناخية لدول الجنوب)، والحركة العالمية الشعبية- العلمية التي تأطرت تحت قضايا الطبيعة والتنوع البيولوجي والاحتباس الحراري... أما المساحة التي يبدو أنها ستلحق بالمساحتين السابقتين والتي بدأت تشتد فيها التناقضات هي مساحة العلم والتكنولوجيا، والتي تحتاج بالضرورة أن تخلق لها وهي تخلق أدواتها للدفاع عن نفسها، والتي تحتل مكانة لا تقلّ أهمية عن المساحات السابقة وذلك نابع من الوزن الذي تحتله في الإنتاج والقوى الاجتماعية التي تعبر عنها.
«أزمة العلم»
تحت عنوان «أزمة العلم» (والذي مرت على ذكره مواد سابقة عديدة) تشكلت في السنين الماضية حركة علمية تكرس نفسها لهذه القضية من مختلف المواقع الفكرية، وهذا يعني أن هذه القضية صارت مطروحة بالضرورة على جدول أعمال هذه المساحة الخاصة من الحياة والإنتاج. ويأخذ النقاش طرقاً متعددة، منها مثلاً التلوث بمنطق السوق، وقضية التفتيت الحاصل في العلوم، وتجاهل النظري العام والنوعي والفلسفي لصالح ضيق الأفق التجريبي والكمّي، والموقف من تسعير معاداة التكنولوجيا الذكية تحت عناوين «الدستوبيا» ودمار البشرية لتغييب قضية أن الرأسمالية هي مصدر الشرور. وأهمها هي قضية مر ذكرها سابقاً في قاسيون في أزمة الإبداع في العلم. ومراجعة المواد في هذا السياق تسمح بالاستنتاج بأن أزمة الإبداع تجمل فيها القضايا الأخرى لأزمة العلم. فتعطل الوظيفة المباشرة للعلم كعملية تعميم وتجريد من أجل إنتاج الجديد لصالح التطور التاريخي الاجتماعي العام للبشرية يتمثل مباشرة بتعطل الإبداع، ولهذا فإن كل الأزمات في العلم تتكثف فيها.
حول البحث في «أزمة بحث الإبداع»
إن البحث في أزمة الإبداع أدى إلى تطور عنوان خاص في السنين الماضية هو «أزمة البحث في أزمة الإبداع». وهذا العنوان يكاد يكون تكثيفاً لأزمة الإنتاج العلمي نفسها في هذا العصر. فهو لا يبحث فقط بأزمة الإبداع كعملية، بل يبحث أيضاً في الأزمة التي يعانيها البحث حول الأزمة. أي أزمة تعريف الإبداع، ورسم بنيته الداخلية، وموقعه ودوره التاريخي والإجتماعي. والأهم من ذلك، هو الاتفاق من عدمه حول وجود أزمة في «بحث أزمة الإبداع». فهناك من يرفض أساساً وجود «أزمة إبداع»، أي غياب قضية البحث من أساسها وبأن الإبداع عالمياً لا تشوبه تراجعات وتعطّل، وهناك من يرفض، وإن اعترف بوجود «أزمة إبداع»، وجود أزمة في «البحث في أزمة الإبداع». وعلى هذا المحور تحصل اصطفافات تقسم الباحثين ليس في ميدان الإبداع فقط، بل في ميادين التعليم وعلم النفس والأعصاب وعلم الاجتماع والفلسفة...
من المهام الضرورية التفكير بخلق أدوات وأطر جديدة للتعبير عن هذه الحركة التي تسلكها الحياة للدفاع عن نفسها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1097