العزوف عن الزواج والخوف من الإنجاب... خياراتٌ مسيّرة!

تلعب الظروف الاقتصادية الاجتماعية بطبيعة الحال دوراً هامّاً في اتخاذ الشبان والفتيات قراراتهم المصيرية في الحياة ابتداءً من تلك المتعلقة بالدراسة والعمل وصولاً إلى الزواج والإنجاب، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الاضطرابات والأزمات الكبرى التي تعصف بالشعوب، حيث لا تتأثر فقط الحياة المعيشية للناس بل يصل التأثير إلى البنية الفكرية وتتغير التصورات حول طبيعة الحياة والنظرة إلى مختلف القضايا الشخصية والعامة، ليصبح السلوك الفردي موجّهاً ضمن مسارات محدّدة تختلقها ظروف الحياة، ليتم تصويرها لاحقاً على أنّها رغبات وخيارات شخصية.

شرخٌ في العلاقات وخوف من المستقبل

يمكن معاينة ظاهرة العزوف عن الزواج والإنجاب في الحالة السورية نتيجة عدد من العوامل، لعلّ أبرزها هو الوضع المعيشي الذي يجعل فكرة الزواج بعيدة كلّ البعد عن أحلام الشاب السوري تحديداً، فتأمين السكن والراتب الكافي لإعالة أسرة وما يتطلبه ذلك من توفير الطعام والملبس والغذاء الكافي للأطفال، كلّ ذلك يبدو صعب المنال في الظروف الحالية. ولكن ظاهرة العزوف عن الزواج لم تطل فقط الذكور، بل جزءاً لا بأس به من الإناث أيضاً بتن يرفضن فكرة الزواج أو يؤجلنها لأسباب تتعلق بقلة الذكور الموجودين أصلاً في البلاد، والحاجة إلى الدراسة والعمل وتحمّل المسؤوليات والأعباء الكثيرة في ظلّ حالات تفكّك الأسر ونزوحها والتغيرات الديمغرافية وخسارة بعض الأسر لجزء من أفرادها كالأب أو الأخ سواء قتلاً أو خطفاً واعتقالاً...
كلّ ذلك مجتمعاً أدى ويؤدي إلى جعل تفكير الفرد محصوراً بسبل عيشه البسيطة، يضاف إلى ذلك عامل مهم وأساسي يتعلّق بالتشوه الطارئ على العلاقات البشرية بين الذكور والإناث نتيجة ضعف القدرة على تحمّل مسؤولية العلاقة، ما جعل الشابّ والفتاة يفكّران بعلاقات مؤقتة، قصيرة، عابرة، تريحهما من همّ التفكير في المستقبل، والذي وإن أقحم نفسه عنوةً بينهما، جعل العلاقة تقف على مفترق طرق، إما الاستمرار بصعوبة وتحمّل المشاق، أو الافتراق. وما بينهما سيلٌ من الأمراض والمشكلات الاجتماعية كالكذب والخداع والخيانة وغيرها... والتي تعززها الظروف وتشيعها أكثر فأكثر، لتصبح العلاقات السائدة سائلة، رخوة، وقابلة بسهولة للتفكك.

الحالة السورية ليست استثناءً

تتحول ظاهرة العزوف عن الزواج والإنجاب يوماً بعد يوم إلى ظاهرة عالمية، لها أسبابها الموضوعية المتجلية في صعوبات الحياة، ولعلّ مثال كوريا الجنوبية هو الأكثر قدرة على توضيح هول الكارثة الذي تسبّبه هذه الظاهرة. ففي هذا البلد الذي يعاني من انهيارٍ في معدّلات الخصوبة يهدّد سكانه بالانقراض! أصدرت الحكومة ما سمّي بـ«مكافأة حمل» لكلّ امرأة يتأكد حملها! وهي عبارة عن مبلغ مالي يقدّر بحوالي 1700 دولار يعطى للأسرة لتغطية تكاليف الحمل والولادة، وبحسب إحدى السيدات الكوريات فإنّ هذا المبلغ بالكاد يكفي لتأمين سعر الأدوية والتحاليل اللازمة خلال الحمل، في إشارة إلى أنّ «مكافأة الحمل» ما هي إلا حلول يائسة تلجأ إليها السلطة لدرء خطورة الانهيار المتسارع في معدلات الخصوبة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض النساء الكوريات يخترن رفض الزواج أو تأخيره لأسباب تتعلق بالتقدم المهني الذي يجب عليهنّ تحصيله خوفاً من استبعادهن كلياً من سوق العمل. فالحياة الطبيعية التي تقتضي وجود سكن وعمل وعائلة لدى أي فرد، تتحول لتصبح استثناءً ولتصبح المفاضلة بين الامرأةً الناجحة مهنياً أو الأمّ، ضرورة قاسية لابدّ من التعامل معها، وعلى ما يبدو فالنتيجة محسومة بالنسبة لغالبية الكوريات لصالح الخيار الأول.

«التعقيم» خوفاً من الإنجاب... أبعد من مجرد «خيار»!

تلجأ بعض السيدات في العالم إلى خيار التعقيم خوفاً من الإنجاب، ولدى الاستماع لمبرّرات البعض منهنّ قد يبدو لك أنّ ما يقلنه صحيح، فهذا العالم بكلّ الكوارث والسوء فيه بات غير صالحٍ لتنشئة أجيالٍ على نحوّ صحيّ، ولكن عند الوقوف على عمق الظاهرة يتضّح بشكلٍ غير قابلٍ للدحض أنّ التعقيم لم يكن وليد فكرة خرجت بها إحدى النساء، بل تمّ العمل على إشاعته وخلق المسوّغات والمبرّرات الكافية له ليصبح وسيلةً بأيدي النخب يمكن عبره التحكم بالتعداد السكاني في العالم، وبالتالي في الموارد المتاحة. والوثائق الرسمية الموجودة والمنشورة تؤكد هذه الفكرة وتدعمها، ولعلّ أهمها هو المذكرة الصادرة عن مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1974 تحت عنوان NSSM200 والذي أشرف على إعدادها وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر، والتي تتضمن اقتراحات جديّة لتخفيض عدد السكان في البلدان النامية، والتي تحتوي على ثروات معدنية مهمة للصناعات الأمريكية، حيث تهدّد الزيادة السكانية- وبالتالي ازدياد الحاجة لاستغلال الموارد في هذه البلدان- الأمن القومي للولايات المتحدة التي تعتمد بشكلٍ كبير على هذه الموارد.
ومن ضمن الاقتراحات دعم كلّ البرامج التي تهدف إلى الحدّ من النمو السكاني سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وتخصيص ما يقارب 100 مليون دولار سنوياً للأبحاث المتعلقة بالخصوبة وتطوير موانع الحمل الفموية ووسائل التعقيم وكذلك تشريع حق الإجهاض وضرورة إتاحته، وقد كان سؤال كيسنجر للرئيس الأمريكي داخل المذكرة حول استعداده للتخلي عن تقديم المساعدات الاقتصادية للدول النامية في حال رفضها لتطبيق هذه البرامج، دليلاً واضحاً على أنّ المساعدات كانت تتم بالشروط المناسبة للنخب الأمريكية.
تنبغي الإشارة هنا إلى أنّ تنفيذ ما جاء في المذكرة قد تمّ فعلاً في عدد من البلدان، أهمها البرازيل، حيث أشارت التحقيقات إلى أنّ حوالي 20 مليون عملية تعقيم قد أجريت للنساء البرازيليات بدعم من منظمات كانت تعمل على تسهيل العمليات وإقامة الندوات التي تؤكد ضرورة إجرائها، والتي كانت نتيجتها حرمان البرازيل من حوالي 30 مليون نسمة.

الزواج والإنجاب سنّة الحياة البشرية... ولكن!

الحادثة المذكورة أعلاه هي إحدى آليات «النيومالتوسية» والتي هي نظرية اقتصادية اجتماعية لجأت إليها الرأسمالية كمحاولة لحلّ أزماتها ومشاكلها، أو على الأقل تأخير انفجار هذه الأزمات قدر الإمكان. تقوم هذه النظرية على تدمير القوى المنتجة حول العالم بشتّى الطرق الممكنة، تحت حجة «الندرة الاقتصادية» و«تزايد عدد سكان العالم» متغافلةً عن التوزيع غير العادل للثروات والذي يعدّ الأساس الموضوعي لجميع الأزمات الاجتماعية، ومتغافلةً أيضاً عن الثروات الهائلة غير المستثمرة، بمقابل التريليونات المهدورة سنوياً على صناعة المخدرات والأسلحة.
وبالعودة إلى موضوع الزواج والإنجاب فإنّ الأزمات المتعلقة بهذين الحدثين الطبيعيين والضروريين لاستمرار النسل البشري، مرتبطة بشكل مباشر بالمنظومة العالمية السائدة والتي تعزّز هذه الأزمات وتغذّيها يوماً بعد يوم، ثمّ تأتي بحقيبة الحلول السحرية لها ليتضّح لاحقاً بأنّ الدواء داخل الحقيبة داءٌ جديد، وأنّه لا حلول جديّة لدى الرأسمالية لهذه المشاكل، والخاسر الأكبر في المحصلة هو الإنسان.