قضية الإبداع العلمي كقضية أزمة عقل المرحلة ومستقبلها

قضية الإبداع العلمي كقضية أزمة عقل المرحلة ومستقبلها

في العدد ما قبل السابق (1094) من قاسيون، في مقال تحت عنوان «ثلاثة أدلة على ركود العلم و’الإبداع’ في أمريكا»، وهو مقتطفات من كتاب للـ د. روبيرتا نيس (أزمة الإبداع، إعادة ابتكار العلم لإطلاق الإمكانيات)، تمت الإشارة إلى العديد من القضايا التي يعاني منها العلم اليوم في الغرب بشكل خاص (والعالم عامة) نتيجة ارتهانه إلى مصالح السوق والربح المادي، وهذا ما أضعف توظيف العلم لصالح حل القضايا الاجتماعية والإنسانية والبيئية. وهذه الأزمة شكلت مؤخراً قضية معنونة بـ«أزمة العلم» التي عادة ما يتم الإشارة إليها في المواد ذات الصلة. ولكن سبر قاعدة الأزمة العميقة في عقل المرحلة يكشف أبعادها التاريخية تحت ما تمت عنونته سابقاً بـ«تدمير العقل».

أزمة العلم بين الظاهر والعميق

إنّ ما ورد في كتاب نيس، كما غيرها من المواد التي صارت تشكّل خطاً علنياً في الأكاديميا الرسمية والتي تعنى بما يسمونه أزمة العلم، يعالج قضايا المسائل السياسية والاقتصادية المباشرة التي تحكم تطور العلم والباحثين، من تمويل مواضيع محددة وشحها في مواضيع أخرى، إلى التهميش المؤسساتي للباحثين خارج «الإجماع العام» إلى قضايا التزوير في البحوث لغايات ربحية ورفع التصنيفات الكمية للباحثين والمراكز البحثية والمجلات والجامعات...وكلها قضايا لوثت العلم بمنطق السوق. ولكن هناك في العمق تكمن جذور الأزمة المعرفية للعلم والإبداع. الجذور التي قليلاً ما يجري البحث حولها إلا من بعض الباحثين. هذه الجذور تكمن بالتحديد في موت المحرك الداخلي للإبداع ليس في العلم وحده، بل في الفن والأدب، والحياة اليومية. هذا هو التحليل العملي والمباشر لما يسمى بتدمير القوى المنتجة نتيجة الأزمة الرأسمالية. فهذا التدمير يتعدى التدمير المادي المباشر نحو تدمير العقل الإنساني الذي هو في جوهره عملية إبداع لا تنحصر في العلم والفن والجماليات، لتشكل قاعدة الوجود الإنساني طوال تاريخه كوجود إبداعي.

الإبداع في الأدبيات

هناك منطقان في قضية الإبداع، واحد يفصلها كحالة خاصة ببعض المصطفين «العباقرة»، وهي بالتالي الاستثناء، وآخر يعتبر الإبداع هو القاعدة الأساسية للعقل، على اختلاف مستوى هذا الإبداع وشكل ظهوره. والموقف العام يميل إلى الموقع الثاني، أي في اعتبار الإبداع هو حالة العقل، في العلوم والفن والحياة اليومية أيضاً. ويختلف تحليل جوهر الإبداع من موقع فكري إلى آخر، ولكن هناك شبه إجماع على اعتباره عملية تجاوز المشكلات والأسئلة المطروحة في الواقع، وبالتالي هو القدرة على تحديد المشكلة وتحديد الإجابة، وخلق الجديد، وردم الهوة بين القديم والجديد، وبذلك تحقيق انتقالة وتحويل للواقع المأزوم نحو واقع كامن في الحاضر، ويتم ربطه عادة بالقدرة على التفكير المتعدد أو الخلّاق وارتباطه بالمخيّلة الخصبة. وبعيداً عن التعميمات المذكورة، أو التجزيء الحاصل من قبل المدارس السائدة، تعتبر المدرسة التي أرساها السوفييتي فيغوتسكي في مسألة الإبداع، وتم لاحقاً تطوير مقولاتها، ومنهم الباحث في قضايا التعلم التوسعي وعمليات العمل يورغي انغسترم (المتأثر والمطور لنظرية النشاط السوفييتية، والباحث في جامعة هلسنكي في فنلندا، وفي جامعة كاليفورنيا في ساندييغو في الولايات المتحدة)، والذي ركز بشكل خاص على البحث في قضايا التناقض الداخلي للنشاطات الإبداعية في مجال العلم والتعلم من موقع الأزمة الراهنة للرأسمالية.

الإبداع كتحويل للواقع

لما بدأ فيغوتسكي مسيرته العملية وضع نصاً مبكراً حول علم نفس الفن، وفيه ناقش قضايا الإبداع، وتلاه نص آخر حول الإبداع والمخيّلة في الطفولة. وفي كليهما يتلخص الموقف العام تجاه قضية الإبداع كصفة أصيلة للعقل بشكل عام. وهذا الموقف، الذي عادة ما يتم العودة إليه لدى العديد من الباحثين الحاليين (ومنهم انغسترم)، يتلخص بكون العقل الإنساني وخلال التاريخ كان إبداعياً لبناء عالم بديل، وذلك تمظهر ويتمظهر في مختلف النشاطات الإنسانية في عملية التأقلم مع الواقع، وتطويعه، ومسألة عكس هذا الواقع عقلياً بشكل نوعي، وهذا يحصل من خلال التجريد والتعميم والقبض على التناقضات الداخلية للظواهر الخارجية الملموسة، وتلك الداخلية- العقلية، وتجاوزها. وفي ذلك تلعب المشاعر دور الدافع الذي تسعى تلك العملية الإبداعية إلى تحريره. هذه المشاعر التي تتأتى من النزعة نحو المستقبل. ففي هذا المستقبل تكمن الطاقة المحركة للإبداع، فكما يقول فيغوستكي في نصه عن الإبداع والمخيلة في الطفولة: «إن مستقبل الإنسانية بكامله يتحقق من خلال المخيّلة الإبداعية: التوجه نحو المستقبل، والسلوك المستند إلى هذا المستقبل، والمتأتي عنه، هو الوظيفة الأكثر أهمية للمخيّلة».

الأزمة الراهنة

مما سبق تتضح أزمة الإبداع كأزمة عقل المرحلة بشكل عام. فالعقل السائد، وتحديداً في الاتجاه الحاكم «النخب» الأكاديمية والفنية، في تسليمه بالرأسمالية لحد الآن، هو ليس فقط يتماشى مع المطروح أمامه من قضايا وظواهر، بل هو بعيد ومغترب عن وجوده نفسه، غير معترف بأصل أزمته كعقل فردي، أي يهرب من تناقضه وإما يحاول التأقلم مع نتيجة هذا التناقض دون محاولة حله من خلال حل أساسه الاجتماعي الاقتصادي من خلال تغيير الرأسمالية كنمط حياة شامل. وهذا واضح من كون الحركة العلمية الأكاديمية والفنية المهيمنة لحد الآن تتحرك إما في هوامش الأزمة دون الخروج عنها، وإمام التسليم بالسائد. وبهذا يتم قتل جوهر العملية الإبداعية، أي ارتباط النشاط الفردي بمستقبل صاحب هذا النشاط، وتحققه بالذات. بالكشف عن التناقضات من أجل تجاوزها كتعبير عن العملية الإبداعية ملغي هنا، كونه لم يتحول إلى شعار تجاوز الرأسمالية التي هي في أصل هذه التناقضات. ويظهر عامل آخر في قتل الطاقة الكامنة في عملية الإبداع، هو تغييب التصور عن المستقبل الممكن- الأفضل، وهذا يتضح من خلال الاتجاه العدمي العام في الثقافة السائدة وعلمها وفنها الأسود، فحول الإحساس الجمالي يقول فيغوتسكي بـأنه «فعل تم تأخير حصوله»، أي إنه المرجو الذي لم يتحقق عملياً بعد، وهكذا يكون الإبداع الفني هو في خلق هذا الفعل في العقل، وبالتالي المساهمة في الكشف عن الواقع وتغييره من هذا الباب. وفي مكان آخر يقول ميخايلوفيتش بيستراك الباحث السوفياتي في مجال التربية والتعليم أنه «لا يمكنك أن تكون مقاتلا مكرساً، إذا لم يكن عقلك في لحظة المعركة يتضمن صورة واضحة، قوية، ونقية، تلهمك في قتالك... وكره القديم وحب الجديد يستند إلى المشاعر» بالضرورة. وفي حالة الإبداع العلمي (والسياسي ضمناً) والفني فهذه الصورة هي المستقبل المختلف عن الحاضر ونقيضه.
فتعميم إمكانية عدم وجود مستقبل أفضل بمعزل عن سرعة تحقيقه هو خنق الشحنة الدافعة الضرورية للمخيّلة التي هي القاعدة الأساسة للإبداع وخلق الجديد في العقل قبل أن يولد في الواقع. الإبداع إذاً لا يختلف عن نسيج الوعي الأساس بما هو تساؤل عن الواقع وتحويل الذات عبر تحويل الواقع نفسه، كمسار الإنسان عبر التاريخ، والفعل السياسي إذا،ً هو أرقى أشكال هذا التحويل المباشر والواعي والشامل، لا بل هو بؤرة كل تحويل، وهذا ولا شك يظهر أن الإبداع السياسي لا يمكن تلمسه اليوم إلا لدى القوى التي وضعت أمامها مهام تحويل الواقع وكشفت تناقضاته المتجددة، وتلك التي لم تحدد هذه التناقضات المتجددة، أو هي تعمل عكس التحويل الضروري، مات عقلها السياسي، ومن فقد قاعدة الإبداع يحكم على نفسه بالتحنّط تمهيداً للدفن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1096