كلمة حول الثقافة الاستعمارية البائدة
تداولت العديد من وسائل الإعلام صورة لتمثال عالم الآثار الفرنسي جان فرانسوا تشامبليون وهو يضع قدمه فوق رأس أحد ملوك مصر القدامى. وأثارت صورة التمثال غضب المصريين على وسائل التواصل الاجتماعي.
التمثال موجود في ساحة أكبر جامعة فرنسية هي الكوليدج دي فرانس في جامعة السوربون، وهناك في «الصراح العلمي الفرنسي» يضع تشامبليون حذاءه فوق رأس ملك مصر تحوتمس الثالث.
أثارت تلك الصورة موجة غضب على وسائل الإعلام المصرية ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي أوساط المثقفين علماء الآثار الذي اعترضوا بعدة أساليب على هذا «السلوك غير المتحضر تجاه ملك مصري عظيم» حسب وصف وسائل الإعلام المصرية. وقال مصدر في وزارة السياحة والآثار: إن نحت تمثال من الحجر الجيري للعالم الفرنسي شامبليون بهذا الشكل وهو يطأ أحد قدميه على أحد أجدادنا المصريين أمر مرفوض تماماً، وعلى الجهات المعنية في فرنسا إزالة هذا التمثال. كما تحرك علماء الآثار والمثقفون المصريون ووقعوا نداء احتجاجياً إلى السفير الفرنسي، مطالبين الجهات المعنية في مصر بالتحرك الفوري لإزالة التمثال المهين لمصر وتقديم شكوى ضد الجامعة الفرنسية. «انتهى الاقتباس من وسائل الإعلام».
يقال في علم الآثار حتى اليوم إن العالم الفرنسي تشامبليون قد نجح في أيلول من عام 1822 في فك ألغاز حجر الرشيد بعد أن ضاعت معانيها لمئات السنين. وتشامبليون هو عالم آثار اشتهر بفكه لرموز الكتابة الهيروغليفية المصرية، وبكونه أحد واضعي أسس علم المصريات في علم الآثار.
لسنا بصدد التشكيك بالإمكانات العلمية لتشامبليون، ولكن لندع الوقائع تتحدث. فالطريقة التي توصل إليها العالم الفرنسي الاستعماري إلى هذا الاكتشاف هي ذاتها التي توصل إليها ابن وحشية النبطي في دمشق الذي فك ألغاز الكتابة الهيروغليفية المصرية قبل تشامبليون بمئات السنين.
عاش ابن وحشية في القرن التاسع، وكان عالماً في الكيمياء والزراعة، ووضع مؤلفاً مشهوراً اسمه «شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام» جمع فيه العشرات من الأبجديات التي استخدمتها مختلف الشعوب القديمة مع وضع مرادفها العربي، ومنها الهيروغليفية المصرية التي توصل إلى معرفتها عند مقارنتها باللغة القبطية المصرية. نشر كتابه في الشرق خلال القرن التاسع، كما نشر كتابه في أوروبا قبل اكتشاف تشامبليون بسنوات. ويمكن لأي شخص اليوم الرجوع إلى كتاب ابن وحشية ومعرفة قصة الاكتشاف الأقدم.
كانت الهيروغليفية مجهولة بالنسبة للأوربيين وهذا صحيح، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة إلى علماء المنطقة في العهد الإسلامي. وحجر الرشيد نفسه أكبر دليل على أن الهيروغليفية كانت معروفة في العهد اليوناني بالنسبة إلى اليونانيين.
وهذا الموضوع يشبه ما يقوله المؤرخون عن كولومبوس والضباط والقراصنة الإسبان، بالنسبة إليهم جرى اكتشاف أمريكا التي كانت مجهولة عندهم، وبالنسبة إلى السكان الأصليين، كان ذلك غزواً وإبادة. وينظر الكثير من المؤرخين الأمريكيين اليوم إلى كولومبوس كمجرم متعطش للغنائم والنهب على حساب إبادة الشعوب.
نعود إلى تشامبليون، ولسنا بصدد إنكار قدراته العلمية، حيث أضاف هذا العالم إلى علم الآثار الكثير، ولكن مقولة تفرده بفك رموز الهيروغليفية كذبة كبيرة، وللأسف يجري اعتمادها في علم الآثار حتى اليوم دون تدقيق. فالصدفة التي جعلت ابن وحشية في القرن التاسع وتشامبليون في القرن التاسع عشر يتوصلان عبرها إلى فك رموز الكتابة الهيروغليفية تكاد تكون متطابقة.
أسس الفرنسيون علم الآثار، وكانت البعثات الأثرية الفرنسية وغير الفرنسية إحدى أدوات تغلغل الرأسمال الأجنبي في الشرق رغم أهمية علم الآثار. وما طريقة نحت تمثال تشامبليون وهو يضع حذاءه فوق رأس الملك المصري إلا الطريقة الفرنسية المعتادة في التعامل مع شعوب الشرق منذ عهد الاستعمار.
ففي متحف الأعراق الفرنسي توجد آلاف الجماجم لقادة المقاومة الجزائرية بينها جماجم 500 من القادة. وهناك أيضاً توجد جمجمة سليمان الحلبي مكتوباً عليها: جمجمة المجرم سليمان الحلبي، وهو الطالب السوري الذي قتل الجنرال الفرنسي كليبر في القاهرة. وهو نفس السلوك الذي وقفته الصحف الفرنسية قبل مئة عام عندما نشرت صور تذكارية للجنود الفرنسيين بجانب الضحايا المغاربة والسوريين والصينيين والأفارقة. هذا هو تاريخ الديمقراطية الفرنسية!
التاريخ الأوروبي وكذلك العلم الأوروبي مليء بالأكاذيب، ولسنا ننفي هنا إنجازات العلم الأوروبي، وإنما نشكك في الجانب الاستعماري من الموضوع الذي هو سليل ثقافة الاستعمار البائدة والتي حان وقت أفولها نهائياً بجميع أشكالها من بقايا القديم إلى الجديد والمركب.
جاء دور شعوب العالم لتدوين تاريخها الحقيقي، وخاصة الشعوب التي عانت من الاستعمار والاحتلال، وجاء أيضاً دور وضع التاريخ المكتوب على يد الغزاة في سلة مهملات التاريخ.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1095