القراءة بين الأمس واليوم والغد
لؤي محمد لؤي محمد

القراءة بين الأمس واليوم والغد

خلال فترات مختلفة في القرن العشرين تسربت إلى بعض الصحف والكتب مصطلحات من مثل: شعوب قارئة، شعوب غير قارئة، تقدم مستوى القراءة، تراجع القراءة ... إلخ. ورغم عمق هذا الموضوع، سادت التفسيرات البسيطة والمقارنات الخاطئة لفهم مستوى القراءة خلال فترات معينة من تاريخ البلدان والشعوب.

نشرت المجلة الساخرة الشهيرة «المضحك المبكي» بتاريخ 10 كانون الثاني 1953 بعنوان «في سورية واحد بالألف من الأهلين يقرأون جريدة». وجرت مقارنة نسبة القراءة في سورية مع نسبتها في عدد من البلدان الغربية حيث ورد في «المضحك المبكي» نسب قراءة الصحف كالتالي: سويسرا 680 بالألف، إنكلترا 600 بالألف، النرويج 421 بالألف، السويد 405 بالألف، الولايات المتحدة الأمريكية 357 بالألف، بلجيكا 338 بالألف، هولندا، 291 بالألف، فرنسا 280 بالألف، فنلندا 278 بالألف، إيطاليا 105 بالألف.
وأجرت المجلة حساباً لمستوى القراءة في سورية التي كان عدد سكانها حوالي 3 ملايين، فكانت النتيجة أن النسبة لا تزيد عن واحد بالألف لأن معدل ما تطبعه جميع الصحف كان عبارة عن أربعين ألف نسخة فقط، وهذا رقم مبالغ فيه جداً.
أضافت المجلة: أما الباقون فإنهم لا يقرأون ولا يهتمون بما يقع في البلاد، والذين يهتمون إما أن يقفوا أمام واجهات بائعي الصحف ليقرؤوها وهي معلقة وإما أن يستعيروها من جيرانهم ليقرؤوها عن طريق الإعارة بدون أن يدفعوا ثلاثة فرنكات. ومع ذلك فهناك من يقول لماذا الصحف السورية مازالت متأخرة عن الصحف الأوربية.
قد يكون حال الصحف بهذا الشكل في عام 1953 لعدة أسباب سياسية واقتصادية، وبغض النظر عن صحة النسب المنشورة أو عدمها. كانت أحوال القراءة في سورية خلال سنوات 1954-1957 جيدة نسبياً، ويشمل ذلك الصحف والكتب والمجلات. فجريدة النور اليومية كانت تطبع 20-25 ألف نسخة يومياً في ذروة الأسبوع، وبعدد أقل من ذلك خلال بقية الأيام. وهنا نضرب مثالاً من جريدة واحدة فقط في فترة كانت فيه الصحافة السورية تعيش عصرها الذهبي. منها الصحف الصباحية والمسائية، اليومية والأسبوعية، مثل بردي والطليعة والأيام والأخبار وصوت الجزيرة وصوت الفرات وعشرات الصحف الأخرى، بالإضافة إلى المجلات المختلفة.
ونشطت دور النشر في طباعة الكتب المختلفة خلال هذه الفترة، فكانت الكتب التقدمية على سبيل المثال تنشر في دار دمشق ودار الكاتب في دمشق ودار الفجر في حلب ودار ابن الوليد في حمص، بالإضافة إلى ما كان يأتي من دار الفكر الجديد ودار الفارابي في بيروت. ومن مختلف البلدان الاشتراكية والعربية. وذلك في ظرف تميز بالنضال ضد الأحلاف الاستعمارية وارتفاع نسبي في الحريات الديمقراطية وصعود الحركة الجماهيرية التي فرضت جواً كانت القراءة فيه واحدة من اهتمامات الإنسان.
فحتى الفلاحون في مختلف الأرياف والقرى تابعوا الصحف، بل وأصدروا صحفاً فلاحية بآلاف النسخ مثل صوت الفلاح في الجزيرة وصوت الفلاح في دمشق وفلاح الجنوب، وكانت جريدة الأرض للفلاح في الساحل تصدر بـ 3500 نسخة. بالإضافة إلى الصحف الجامعية والثانوية والعمالية والثقافية والإخبارية وغيرها.
في ظروف اليوم في العالم الرأسمالي، يتراجع الكتاب عالمياً لعدة أسباب، منها تراجع القدرة الشرائية للناس وظروف الأزمة الرأسمالية، فالجائع لن يشتري كتاباً بثمن مرتفع لأن ضغط الخبز أعلى من ضغط الكتاب. ولكن قد توقظه ظروف عالية من النشاط السياسي والنضال الطبقي على شراء الكتاب حتى في هذا الظرف وأن بنسبة قليلة.
وبشكل عام، شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً في أسواق ومبيعات الكتب، وصلت إلى درجة أغلاق مكتبات ودور نشر عريقة في العالم الغربي. بينما شهدت الصين صعوداً لنشر الكتب الورقية والإلكترونية على حد سواء.
تحمل الاشتراكية مستويات عالية من القراءة، ونستطيع أن نضرب أمثلة من الاتحاد السوفييتي الذي شهد ارتفاعاً كبيراً في مستويات القراءة خلال عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، وهذا من أفضال الاشتراكية في عهد جوزيف ستالين ومن إنجازات ثورة أكتوبر.
ففي مرحلة ما بلغ عدد مشتركي الصحف المحلية والمركزية رقماً أكبر من قدرة مطابع الاتحاد السوفييتي على توفير الورق في الوقت اللازم. وشمل ذلك عالم الكتب أيضاً. فهناك وجد شعب يقرأ شكسبير أكثر من الإنكليز، وصار الناس يقتنون المكتبات والأعمال الكاملة للمؤلفين. ولن نستطيع القول إن هذا المستوى من القراءة كان موجوداً في روسيا من قبل.
وكان السوفييت ينشرون الملصقات التربوية في المعامل والمنشآت في العام 1920، والتي كتب عليها: القراءة واحدة من مسؤوليات الإنسان. لأنه جرى توفير حق القراءة للجميع. فالجميع كان قادراً على اقتناء الكتب، والجميع كان يملك وقت القراءة لمن يريد ذلك، وشجع السوفييت على القراءة بعد توفير الظروف المناسبة لذلك.
كيف ستكون مستويات القراءة في زمن الاشتراكية القادمة؟ ستكون أعلى مما هي عليه اليوم. ولكن لن تكون القراءة هي الأداة الوحيد للتعلم والثقافة، لأن ظروف التطور قد أوجدت المادة المرئية مثل الأفلام السينمائية والوثائقية. وتحتاج هي الأخرى لمستوى جيد من المعيشة لتصبح في متناول جميع الناس.
بكلمة أخيرة، من يفسر انخفاض مستويات القراءة ويعيد أسبابها إلى الناس لا إلى ظروف الناس، لا يستطيع الرؤية جيداً، فتبدو له الأزمات ذهنية وأخلاقية بدل أن تكون سياسية واقتصادية. لذلك فالعالم أعمق من هذه التفسيرات المقلوبة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1092
آخر تعديل على الثلاثاء, 18 تشرين1/أكتوير 2022 10:33