صدمة الانتقال بين عقلين

صدمة الانتقال بين عقلين

من تداعيات التسارع الكبير ونوعية الانتقال الذي تتضمنه المرحلة الحالية ليس فقط مسألة الوزن النفسي لعقود (لا بل قرون) من نمط الحياة الرأسمالية وما شهدته من تهديم لفكرة الاشتراكية ممكنة التحقيق، الذي يعمل ككابح لتقبل التحول الحاصل في ميزان القوى العالمي التاريخي، بل هناك أيضاً مسألة الجاهزية العقلية والشخصية لناحية الأدوات العقلية وبنية الشخصية وعلاقتهما بالوعي كقائد للنشاط وبالحاجات والدوافع التي هي أيضاً تطورت وتبلورت ضمن الرأسمالية ولبست لبوسها في الوعي، وهو ما يضع الفرد أمام صدمة ضغط الحاجات الممارسية لهذا الانتقال.

مأساة الإرادوية ووهم الحرية

إن الشخصية الراهنة كتعبير عن منهجية الممارسة في العلاقة مع الواقع مرتبط بمقولات عقل المرحلة الليبرالي الذي دفع إلى حدود قصوى المنطق الفرداني تحت شعارات النجاح الفردي الممكن له تخطي الواقع وصعوباته. وعلى الرغم من أن العالم اليوم لم يعد يوفر القاعدة المادية لهذا «النجاح»، ولكن تركة هذا العقل لم تزل. وفي عمق أزمة الشخصية الإرادوية تكمن صراعات مقولات الحرية والضرورة. فالحرية لا تخرج عن منطق الضرورة، وهذا ما سيكون على جدول أعمال تحولات العقل. وهذا بالتحديد ما يمكن تلمسه بشكل واضح على مستوى الخطاب السياسي في قضية رئيسية اليوم هي مسألة الغاز الأوروبي. فبعض الدول الأوروبية كصربيا وهنغاريا تبنيان كل محاججتهما على وقائع عدم القدرة على التحرر من ضرورات غياب بدائل عن الغاز الروسي. هذا المثال قد يكون أوضح تعبير عما يواجهه ليس فقط العقل السياسي، بل العقل بشكل عام في علاقته مع الواقع، أي الخضوع لضرورات قوانين موضوعية من أجل تحقيق الحرية الفردية والتحقق الذاتي بشكل عام. ولكن، وإضافة إلى الحاجة لصرف طاقات كبيرة والتزام وتفانٍ أكبر من قبل الفرد الذي سيعانق الضرورة وما يعنيه ذلك من تحولات في قبول ثمن الضرورة، هناك قضية أخرى هي الأدوات العقلية التي يجب أن تتواجد حتى تكون معانقة الضرورة مجدية وغير مغلقة على المأساة والعجز تجاهها.

مدى جاهزية الأدوات العقلية

إن الانتقال إلى الفعل الواعي تجاه الواقع لا يكفيه فقط الانتقال من حيث الموقف والقابلية النفسية (على صعوبات هذا الانتقال)، بل يحتاج أيضاً إلى الأدوات العقلية التي تمكن الفرد من ذلك. وهذه الأدوات ليست جديدة في التاريخ، بل هي التعبير عن مادة هذا النشاط، أي الواقع الاجتماعي وقوانينه، أي هي مضمون النظرية المادية التاريخية وما حملته التجارب التاريخية الثورية من دروس ممارسية. وهذا يصطدم اليوم بالثقافة المهيمنة عالمياً ومعها المستوى الأكاديمي العلمي الذي يشكل اليوم وزناً كبيراً في النشاط الإنساني وبالتالي يمارس دوراً كابحاً بدوره، كونه محكوماً بمقولات نقيضة للمادية التاريخية وإرث الممارسة الثورية، وتملؤه كل لوثات الفلسفة المثالية ومقولات الليبرالية في فهم العالم والواقع والذات. إذاً، ولأن هذه الأدوات العقلية لا توجد مستقلة عن التجربة التاريخية السياسية بشكلها المباشر، فإن الإقبال عليها هو بحد ذاته سيشهد كبحاً نتيجة المعاداة العميقة لهذا الإرث عالمياً، والتي لا يمكن فصل أدواته عن الأرض التي تطورت بها هذه الأدوات، أي الممارسة الثورية وقضية التغيير وفكرة الإشتراكية وتجربتها. وهنا يظهر وجه آخر من أزمة الانتقال بين عقلين هي مدى ملاءمة المادة اللغوية لمحركات الفرد الداخلية، أو ما يسميه الخبراء «النشاط القائد» الذي يعبر عن المشروع العام للفرد في علاقته بالعالم والذي يضم تحته مجمل الأنشطة التي تعمل على تخديم المشروع العام.

أزمة السردية

تعاني سردية «المادية التاريخية» والاشتراكية ليس فقط أزمة تشويهها والحرب عليها، بل هي أزمة تطويرها لكي تتلائم مع الواقع الجديد، وهنا نقصد أن تعكس المدى الذي تطور إليه الإنسان الحالي لناحية حاجاته ودوافعه التي تتكثف في المشروع الوجودي للتحقق، أي قضية التحقق الذاتي التي تشكل عمود الصراع في مسألة الاغتراب كتكثيف لأزمة الإنسان الرأسمالية. إذاً هناك ضرورة (والقول بذلك ليس جديداً) لتطوير السردية العالمية للإشتراكية بما يتخطى وجودها في المواد الفكرية الجديدة والتحليلات، بل انتقالها إلى مستوى الخطاب حول المشروع ومقولاته. هذا التطوير يعني الإجابة ليس فقط عن أسئلة الإنسان اليوم، لناحية التحقق والكارثة العقلية-النفسية التي يعيشها، بل أيضاً يجب أن تتضمن الأدوات الممارسية لهذا التحقق، وبرنامجه الواقعي، من أجل تمكين العقل ليس فقط من التصدي للواقع الاجتماعي، بل أيضاً من التصدي لأزمة انتقاله هو نفسه (أي العقل). أي قدرته على فهم ضروراته نفسها، وهضم واعٍ لأزمة اغترابه وتوفير الأدوات العقلية لإدارة الضرورة بمستواها الذاتي- النفسي التي توسع حضورها في العقود الماضية. وهذا ما ليس متوفراً في الفضاء العالمي، ويمكن القول إن الانتقال في مستويات المواجهة، وتحقيق الانتقال نفسه لن يكون ممكناً دون تحقيق هذه المهمة. فترك هذه الميدان يعني تجيير طاقة تدميرية للعالم المتراجع.
إن الشخصية والأدوات العقلية والسردية لا تختزل كل أزمة ضرورة الانتقال بين عقلين، على تعقيد القضية، ولكنها تمثل العناوين الرئيسية لأزمة هذا الانتقال. وخصوصاً أنه انتقال يحصل في مدى زمني قصير جداً مما يصعب العملية كون الفرد نفسه وفي مدى زمني قصير نسبياً عليه أن يقوم بعملية ولادة جديدة لنفسه. ولهذا لا بد من أن يكون هذا التحول جماعياً ومحمولاً عبر أطر واسعة قادرة على مد الفرد ليس فقط بالمادة الضرورية لهذه الولادة بل أيضاً أن تكون ضابط إيقاع هذه الولادة، والتي هي كانت من وظائف الحزب الثوري تاريخياً، ولاحقاً الأممية، واليوم هي شيء جديد يجب تكوينه على نسق ما يتم بناؤه من أطر عالمية اقتصادية وسياسية وعسكرية بديلة، ولكن هذا الإطار سيكون الأصعب، لكونه يجب أن يعلن القطع مع الرأسمالية كنمط حياة، وهنا بالتحديد التوتر الضمني والكامن في هذا الملف لأنه يتجاوز البنى القائمة كلها، ليس فقط على مستوى العلاقات بين الدول، بل داخل هذه الدول وطبيعة الحياة فيها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1088