«المفتش الكبير».. معتقلاً!
عماد الطحان عماد الطحان

«المفتش الكبير».. معتقلاً!

رواية الإخوة كارامازوف، هي آخر رواية كتبها دوستويفسكي، ويجمع نقادٌ كثيرون على أنها أعظم أعماله على الإطلاق وأكثرها نضجاً، رغم أنّ إطلاق حكمٍ كهذا يبدو أمراً شديد الصعوبة، بغياب وجود أدوات قياس لقيمة جواهر عظيمة كالجواهر التي تركها الكاتب للبشرية.

أياً يكن الأمر، فإنّ ما يتفق عليه عدد كبير من النقاد أيضاً، هو أنّ القسم المعنون بـ«المفتش الكبير» ضمن رواية الإخوة كارامازوف، ليس بين أفضل ما كتبه دوستويفسكي فحسب، بل وبين أفضل ما كتب في الأدب العالمي على الإطلاق. القسم هو عبارة عن قصيدة نثرية كتبها أحد أبطال الرواية، وهو إيفان، ويقرأها على أخيه الأصغر أليوشا.
تجري أحداث القصيدة في وقت ما من القرن السادس عشر في إشبيلية، حيث كانت محاكم التفتيش في ذروة نشاطها وإرهابها، وحيث كانت أوروبا تغرق بدماء الصراعات. المفتش الكبير هو ممثل البابا والمسؤول الأول عن محاكم التفتيش، والذي كان قد أرسل مئة شخص من «الهراطقة» للموت قبل يومٍ واحد من وقت وقوع أحداث القصيدة.
في القصيدة، يرجع المسيح إلى الأرض، ويتعرف عليه الناس لا عبر معجزاته، بل عبر قوة خفية جذبتهم إليه، ولا يمنعه ذلك من إعادة البصر لأعمى وإحياء فتاة صغيرة ميتة، وبينما الناس حوله يشهد الواقعة المفتش الكبير، فيأمر باعتقاله، ويتقبل الناس الأمر خاضعين رغم معرفتهم بأن المعتقل هو المسيح نفسه. وفي زنزانته الانفرادية، يجري حديث من طرف واحد بين المفتش الكبير والمسيح، لا يقول المسيح شيئاً، ويبدو الأمر كما لو أنه مونولوج طويل للمفتش الكبير.
يتمحور هذا المونولوج حول فكرة أساسية، وهي تقريع المسيح على عودته، وكذلك تقريعه على رفضه إغواءات الشيطان الثلاثة، وصولاً للقول: إنه هو، أي المفتش الكبير، ومعه المؤسسة الدينية الرسمية، قد قبلت بالصفقة، (وعلى هذا الأساس يجري تشبيه هذا الفصل من الرواية بفاوست) قبول المؤسسة الحاكمة بالصفقة، كان يعني قبولها وضع يدها على مثلث السلطة والمال والأخلاق، وكان يعني وفقاً لكلام المفتش الكبير قبولها بتحمل عبء حرية الناس بدلاً عنهم... ورغم أنّ كماً هائلاً من الدراسات قد أجريت على هذا الفصل بالذات، وبات تقليداً بين علماء الاجتماع وعلماء النفس الشهيرين أن يدلوا بدلوهم بخصوصه، بمن فيهم فرويد وإريك فروم وآخرين، إلا أنّ هذا الفصل لا يزال يحمل الكثير مما يمكن قوله عنه في وقتنا الراهن أيضاً...
السلطة العالمية اليوم، والمتحكمة بالنفوذ والمال، متحكمة أيضاً بالأخلاق؛ فما نراه من سلوك متعالٍ ومتعجرفٍ للغرب بالذات حول «حقوق الإنسان»، يشكل مثالاً ملموساً على كيفية إدارة ملف الأخلاق العالمية بما يخدم مصلحة السلطة في تعاملها مع «القطيع البشري»، الأدنى منزلةً بطبيعة الحال.
كل الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الغرب من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق وليبيا وسورية والصومال ويوغوسلافيا ورواندا وكمبوديا و..... كلها من «أفعال الحكمة» ومن «أفعال القدر».. وهي من باب حمل مسؤولية الحرية عن كاهل «القطيع»... واستخدام ملف «حقوق الإنسان» ككرت يجري رفعه بشكل انتقائي، ومتى دعت الحاجة وبوجه أيٍ يكن، لا يتضمن استعلاءً واستكباراً فوق العالم كله فحسب، بل ويتضمن تغليفاً للجريمة المستمرة في تجويع ونهب وإفقار العالم، وزرع الحروب في أنحائه المختلفة، ووصولاً لامتصاص وإراقة دماء المليارات من البشر...
ضرب أي ضلع من أضلاع ثلاثية الصفقة الشيطانية، يعني انهيار الصفقة بأكملها؛ وما نراه اليوم من نهوض عالمي ضد التعالي الأخلاقي الغربي المزعوم، هو الخطوة الأولى في اقتياد «المفتش الكبير» هذه المرة، إلى غرفة الاعتقال...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1082