وزن الشرق في التاريخ

وزن الشرق في التاريخ

عرف الشرق تغييرات نوعية عميقة منذ أقدم الأزمنة التي كشفتها العلوم الأثرية والاجتماعية. وتراكمت هذه التغييرات عبر مختلف التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية في التاريخ.

مقدمة من علم الآثار

اكتشفت فؤوس حجرية في الساحل السوري هي أقدم فؤوس اكتشفت خارج إفريقيا حتى اليوم «مليون سنة». وعثر في مواقع اللطامنة والكوم والقرماشي على أرضيات سكن وأكواخ تعود إلى ما قبل 700-500 ألف سنة. «د. سلطان محيسن، عصور ما قبل التاريخ 2009، ص 273-274».

الثورة الحجرية الحديثة

بين الألف الثانية عشرة قبل الميلاد حتى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. جرت تغييرات نوعية عميقة في الشرق، عمليات أدت نشوء أسس الاقتصاد المنتج القائم على الزراعة والرعي. وتشكل هذه العمليات في تاريخ المنطقة عصر انعطاف نوعي يطابق وفق تصنيف إنجلز، الانتقال من الوحشية إلى البربرية، من مجرد تلقي منتجات الطبيعة إلى إنتاج الطعام. ويسمى إنجلز فترة الانعطاف هذه «أول تقسيم اجتماعي كبير للعمل»، وهو يقصد بهذا انفراز قبائل المزارعين- الرعاة من سواد الصيادين وجامعي النباتات.
ويستخدم علماء الآثار على خطا غوردون تشايلد، مصطلح الثورة النيوليتية «ثورة العصر الحجري الحديث» للإشارة إلى هذا الحدث. وقد نوه تشايلد بأنه استخدام كلمة «الثورة» للإشارة إلى نقطة أوج التغيرات السابقة الطويلة في بنية المجتمع الاقتصادية وتنظيمه الاجتماعي. وأطلق جاك كوفان اسم «الثورة الزراعية» على هذه التغييرات.
إن المقدمات والمراحل الأولى من ثورة العصر الحجري الحديث لا تلاحظ فيما بين النهرين إلا في شمال المنطقة، في جبال ومرتفعات زاغروس وسنجار. فقد عثر هناك، على بواكير اقتصاد النمط الجديد. وهذا ما يؤكد تنبؤ الأكاديمي السوفييتي فافيلوت باقتران كل مراكز الزراعة بمناطق الجبال والتلال ذات المناخ شبه الاستوائي والاستوائي الجاف والدافئ. وظهرت المستوطنات الحضرية الأولى في أغنى المناطق بهذه المصادر. ومن بينها عينان وملاحة في فلسطين، وميوريبيت شمال سورية، وزادى جمى شانيدر وكنج دارخ في زاغروس والقرى الزراعية الأولى في الأناضول وإيران. وهي جميعها تعود إلى الألف التاسعة حتى الألف السابعة ق.م. «غولايف، المدن الأولى، دار التقدم موسكو 1989، ص 27-44. د. سلطان محيسن، عصور ما قبل التاريخ، ص 171-208».

ثورة المدن

كان تطور المدن السريع من أهم السمات المميزة للفترة الأركية والكتابية الأولى. لقد أطلق غوردون تشايلد في حينه على هذه الخطوة الحاسمة في التاريخ القديم لما بين النهرين اسم «ثورة المدن»، التي استمرت خلال خمسة قرون. وكانت المستوطنات في أزمنة العبيد متناثرة بلا انتظام بمحاذاة فروع الفرات الطبيعية التي استخدمت مياهها، لري الحقول جزئياً. ولعل المدينة قد ظهرت على أساس الاتحاد (الاندماج)، الطوعي أو القسري، لعدة طوائف ريفية. وحظيت هذه العملية بأوسع انتشار في كل الشرق القديم، بما في ذلك مناطق حضارات المدن الأولى في أورارتو الأرمنية، حيث نشأت المدينة على أساس المشاعيات الزراعية التي تحولت في ظل ظروف اقتصادية وسياسية مواتية إلى مشاعيات مدن.
فما هي مقدمات «ثورة المدن» فيما بين النهرين وقواها المحركة؟ وما الذي ساعد على تحول قرى العبيد الزراعية الصغيرة إلى مدن كثيرة السكان ومحاطة بالأسوار في مستهل الألف الثالث ق. م؟
ينظر المؤرخون الماركسيون إلى تطور المدن كنتيجة لتطور القوى المنتجة وتعمق التقسيم الاجتماعي للعمل وتغير علاقات الإنتاج. هذه العمليات المعقدة كلها تتجلى بوضوح لدى انتقال البشرية من النظام المشاعي البدائي إلى النظام الطبقي المبكر، على عتبة ولادة الدولة والحضارة.
وكتب أنجلز: «إن المدينة، المحاطة بأسوارها الحجرية... تغدو مركز القبيلة أو اتحاد القبائل... وحدث التقسيم الكبير الثاني للعمل: فقد انفصلت الحرفة عن الزراعة. ومع انقسام الإنتاج إلى فرعين رئيسيين كبيرين، هما الزراعة والحرفة، يظهر الإنتاج، ومعه تظهر التجارة، ولكن كل هذا بشكل لا يزال بدائياً بعد». وجاء في «الإيديولوجيا الألمانية»، إلى جانب ذلك، أن التعارض بين المدينة والقرية يبدأ مع الانتقال من البربرية إلى الحضارة، من النظام القبلي إلى الدولة.
ولا جدال في أن مقدمة «ثورة المدن» الهامة الأخرى هي النجاحات في ميدان اقتصاد المجتمع القديم: الزراعة الرفيعة التطور بما في ذلك الزراعة المروية وتربية الماشية اللتان تعطيان منتوجاً إضافياً ثابتاً ومنتظماً، وتطور معالجة المعادن وأصناف الحرف والتجارة إلى مسافات بعيدة. وهكذا ولدت مجموعة كاملة من المدن_الدول في سومر جنوب العراق: سيبار، كيش، أكشاك، لاراك، أور، أما، لكش، باد، تيبيرا، أرك، لارسا، أريدو. «غولايف، المدن الأولى، ص 59-109».

الثورة الاشتراكية

منذ نهاية التشكيلة الإقطاعية، إنزاح مركز التغييرات النوعية نحو الغرب، ولذلك حدثت الثورة البرجوازية والثورة الصناعية في أوروبا. ولكن في عصر الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية، انتقل مركز الحركة الثورية إلى الشرق، إلى روسيا، وحدث أعمق انقلاب اجتماعي في تاريخ المجتمع الطبقي: ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى 1917 التي فتحت أفقاً جديداً في تاريخ البشرية. وتمثل هذا الأفق في الثورات العمالية في العالم الرأسمالي وثورات التحرر الوطني في المستعمرات، حتى الانتصار على الفاشية ونشوء المنظومة الاشتراكية. وكانت الثورة الصينية واحدة من أهم الثورات التي حدثت بتأثير ثورة أكتوبر. وتدين كل من روسيا والصين بوجودهما اليوم إلى تلك الثورات.

الثورة العلمية التقنية

الثورة العلمية التقنية هي الطفرة النوعية التي طرأت في أواسط القرن العشرين على دينامية تطور القوى المنتجة وتغيير أسس الإنتاج المادي التقني تغييراً جذرياً. وهي ظاهرة اجتماعية معقدة وعملية تاريخية مديدة تتسم بالطابع العالمي الشامل لأنها تمارس في جميع ميادين الحياة الاجتماعية. «معجم الشيوعية العلمية ص 177».
وما زالت الثورة العلمية التقنية مستمرة في القرن الواحد والعشرين، بل وتتسارع في ظل انزياح واضح لمركزها نحو الشرق مع ما سيحمل ذلك من تقسيمات جديدة للعمل في ظل التطور التقني الهائل في مختلف المجالات مثل الذكاء الاصطناعي وأنظمة الطاقة الجديدة والإنتاج التقني الكبير واتصالات الجيل الخامس والسادس والاكتشافات والإنجازات التعليمية والطبية والفضائية الجديدة. وستساعد الأزمة الرأسمالية على حدوث المزيد من الانزياح نحو الشرق، ويرتبط خط التطور النوعي للثورة العلمية التقنية بانتصار الثورة الاشتراكية الجديدة في المستقبل.

الثورة الاشتراكية القادمة

تواجه البشرية مهمة تحقيق الثورة الاشتراكية الجديدة في المستقبل، اشتراكية تستند إلى تجارب القرن الماضي، وتنطلق نحو تجربة أكثر تطوراً. وعشية طريق البشرية نحو هذه المهمة، يبرز دور الشرق في مختلف المجالات، لذلك فهو مرشح أن يكون صاحب وزن كبير في الثورة الاشتراكية القادمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1078
آخر تعديل على الإثنين, 11 تموز/يوليو 2022 13:53