مطالعات في الماركسية
نادرون هم أولئك الذين كان بوسعهم قبل مئة عام استشفاف مستقبل النظرية التي صاغها كارل ماركس وفريدريك إنجلز بالاستناد إلى دور الطبقة الجديدة التي ولدت بظهور الرأسمالية.
وقد قالا «إنه في ظروف وجود البروليتاريا تتكثف كل ظروف وجود المجتمع الراهن بشكلها الأكثر صفة لا إنسانية، فالإنسان قد أضاع نفسه، لكنه في الوقت ذاته لم يكتسب الوعي النظري لهذا الضياع فحسب، بل اضطر مباشرة بفعل الشقاء الذي أصبح محتماً والذي تستحيل مداواته والذي لا يقاوم بصورة مطلقة- بالتعبير العملي بالضرورة- إلى التمرد ضد هذه اللا إنسانية. ومن أجل ذلك كله، إنما لا تستطيع أن تتحرر دون إزالة الثوابت الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي ألا وهي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والمزاحمة والاستثمار وفوضى الإنتاج. إن التحرر الاجتماعي للطبقة العاملة يصبح أيضاً تحرر كل الشغيلة وكل المستثمرين». على هذا النحو حدد ماركس وإنجلز قبل مئة عام الرسالة التاريخية والعالمية للبروليتاريا (كتبت هذه السطور في سبعينات القرن العشرين- المحرر).
والاشتراكية العلمية التي لم تكن في ذلك الوقت إلا مجرد اتجاه إلى جانب نظريات اشتراكية طوباوية تسود الحركة العمالية، قد كسبت اليوم إلى جانبها حركة تحرر الطبقة العاملة والجماهير الكادحة غير البروليتارية.
إن نظرية ماركس وإنجلز التي أغناها لينين بتجربته الجديدة أصبحت راية الثورة الاشتراكية الأولى في التاريخ، ثورة أكتوبر 1917.
والماركسية اللينينية هي علم بناء المجتمع. ويتوجب على أعدائها أن يضعوا في حسابهم قوة جذبها.
إن ما يعطي الماركسية قوتها هو: الصلابة العلمية لنظريتها. الروابط التي تجمعها بالواقع وأماني الجماهير الكادحة وتقدم القوى المنتجة والثقافة الفكرية والمسائل الملحة لعصرنا.
ومن أجل إعطاء فكرة عن هذه العلاقات المتبادلة سترسم فيما يلي:
1_ الولادة التاريخية والمقدمات المادية والفكرية للنظرية الماركسية.
2_ عملية نشوئها وأجزاؤها التي لا تتجزأ (الفلسفة والاقتصاد السياسي والشيوعية العلمية).
3_ تطورها وتطبيقها في السياق التاريخي الراهن.
الضرورة التاريخية
لماذا ولدت الماركسية حوالي منتصف القرن الماضي (القرن التاسع عشر) وليس قبل مئة عام من ذلك التاريخ؟ لقد نشأ وضع تاريخي اجتماعي موضوعي أي مستقل عن إدراك عبقرية ماركس وإنجلز لكنه وجد لهذا الواقع الموضوعي انعكاساً له عندهما. ولو لم يقوما بهذا الاكتشاف العظيم لقام مفكرون عظام آخرون. ولكن ذلك لا يقلل قط من فضلهما العظيم.
المقدمات الاقتصادية الاجتماعية
إن النظرية الماركسية قد ظهرت بعد تطور طويل للمجتمع الرأسمالي الذي تعود ولادته، كما هو معلوم إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فقد ولدت الرأسمالية في قلب المجتمع الاقطاعي وتطورت في داخله وتفجرت بشكل ثورات برجوازية كانت آخرها وأعظمها الثورة الفرنسية عام 1789.
وإن الإلغاء الثوري للإقطاع في إنكلترا وفرنسا كان له في الحقل الاقتصادي نتائج لا تحصى وهي الثورة الصناعية التي حدثت في القرن الثامن عشر في إنكلترا وفي بداية القرن التاسع عشر في فرنسا وأدت إلى زيادة هائلة في إنتاج الخيرات المادية ومردود العمل. إلا أن هذا النهوض للإنتاج وهذه الزيادة الخارقة لمردود العمل والثروة الاجتماعية لم يحسنا مع ذلك وضع الجماهير الكادحة، بل على العكس، فإن هذا الواقع الجديد، واقع الرأسمالية كان يبرز لوحة مخفية: تكديس للثروات في قطب من المجتمع، وبؤس القطب الآخر، وفوضى في الإنتاج وتحول صغار المنتجين إلى بروليتاريين واستثمار للعمال بما في ذلك الأولاد وهو استثمار بالغ الوقاحة، فقد كان العامل يعمل أحياناً ثماني عشرة ساعة في اليوم. وانتشر الفقر والبؤس والتسول.
إن البرجوازية بعد أن تولت القيادة السياسية ووطدت حكمها، اتجهت ضد الطبقة العاملة الراغبة في تحسين مصيرها بنشاطات أكثر عدداً وأكثر اتساعاً وأصبح الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا حاسماً بعد أن شرع العمال يدركون أن مصالحهم تتعارض مع مصالح الرأسمالية وحيث بدأت الإضرابات العمالية تنتشر وتتزايد باستمرار.
إن ولادة الماركسية تقع في حقبة أنجزت فيها التحولات الديمقراطية البرجوازية في أوروبا الغربية وبدأت تتهيأ الثورات البرجوازية لعام 1848، وفي أكثرية بلدان هذه المنطقة، لم تعد البرجوازية طبقة ثورية لأنه لم يكن لها مصلحة في السير حتى النهاية بهذه التحولات خشية من استفادة الطبقة العاملة من الحريات الديمقراطية كي تتحرر. وفي مثل هذه الظروف كان النضال في سبيل الديمقراطية يعني النضال ضد البرجوازية المحافظة المصممة على التفاهم مع أعداء الديمقراطية. وكان ذلك أيضاً عاملاً سياسياً في ولادة الماركسية.
ولقد كانت ألمانيا موطن ماركس وإنجلز أكثر تخلفاً من فرنسا وإنكلترا. وقد ارتعبت الملكية من حركة الطبقة العاملة، ولذلك وقفت ضدها منذ البداية فكان من السهل على الطبقة العاملة أن ترفع راية النضال ضد الملكية المطلقة وضد الرأسمالية ولذلك كانت الطبقة العاملة الألمانية أكثر ثورية من أخواتها في فرنسا وإنكلترا ولذلك كانت ألمانيا حبلى بثورة برجوازية ديمقراطية. وأبصرت الماركسية فيها النور لأن مركز الحركة الثورية كان قد انتقل إليها. وعلى هذا الأساس وضع ماركس وإنجلز نظريتهما التي عبرت عن الحاجات الملحة للحركة العمالية. ومنذ ذلك الوقت أصبحت البروليتاريا تملك نظرية عن الاشتراكية العلمية تظهر فيها قوانين تطور المجتمع، القوانين التي تسود موضوعياً وبالضرورة الانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية وقد أشارت هذه النظرية إلى وسائل العمل الواجب استخدامها وإلى طريق التحرر.
تراث القرن التاسع عشر
قال أحد أعداء الماركسية: إن الإيديولوجيا الشيوعية هي إنكار متعمد للتراث الفلسفي الذي لا يقدر بثمن والذي كرس خلال ألفي سنة من الحضارة، لكن الواقع يكذب هذا القول لأن الماركسية لم تولد على هامش التقدم الإنساني. وإن عظمة ماركس وإنجلز تتلخص بالدرجة الأولى بأنها أعطت الجواب على الأسئلة التي سبق أن طرحها المفكرون التقدميون وإن النظرية الماركسية تشكل امتداداً حياً ومباشراً لعمل أسطع ممثلي الفلسفة الكلاسيكية الألمانية والاقتصاد السياسي الإنكليزي والاشتراكية الطوباوية الفرنسية.
من مخطوطة محمد عادل الملا «آراء ومطالعات في الأدب والتاريخ والفلسفة والاجتماع» المخطوطة الثانية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1078