ما بين مفهـوم الحداثة والمعاصرة .. إعادة الطرق على باب بيت مهجور..
تكلّم الفنان فاتح المدرّس ذات يوم عن الحداثة والمعاصرة، مستبعداً معظم الفنانين بعدم فهم «المعاصرة»، وأن هناك عدداً ضئيلاً من الأعمال الفنية دخلت مرحلة «المعاصرة»، قائلاً: «لم يدخل العصر أي عمل فني عربي حتى الآن، لأن الفنان العربي مازال منعزلاً بفكره المتعالي عما يجري في العالم الخارجي من طروحات تشكيلية وأبحاث علمية وفكرية عن تطوّر اللغة الشكلية، والجمالية» ما أدى إلى إثارة حفيظة بعض النقّاد بأن ذلك ضرب من الخيال والتهكم، وبأن ذلك ظلم للعمل التشكيلي في الساحة العربية.
وبقينا حتى الآن ونحن نسمي أي عمل فني خارج عن الفكر المدرسي هو حداثي، رغم أن مفهوم «الحداثة» في «المورد» هو «نزعة في الفن تهدف إلى قطع كل الصلات بالماضي، والبحث عن أشكال جديدة في التعبير»، هذه النزعة تم تأريخها في الفترة ما بين 1860- 1970م، وكان من أهم ما يميز تلك الفترة عدم التزامها بما هو قديم وتقليدي، ولا حتى الاعتراف بمفهوم «فن الصالونات» ولكنه يتعدى أكثر من ذلك، إذ يتبدل إلى مفهوم طليعي في البحث الشكلي، مستنداً إلى معطيات العصر (المعلوماتية- المعرفية- التقنية) ، وهنا لم يتطرّق الحداثيون إلى الأسلوب، بل كان اهتمامهم بالموضوع والمضمون ليتحول فيما بعد من التركيز على الموضوعات التاريخية إلى مظاهر الحياة اليومية والطبيعة.
وهنا أصبح الاهتمام بمفاهيم جديدة مثل فكرة «التجريب» حيث أكثر الفنانين يبحثون من خلال تجاربهم عن خصائص جديدة للفن من منطلق أن الفن يخدم الفن.
وهكذا عدّ الفن الحديث على أنّه أسلوب خاص وطريقة جديدة في معالجة جديدة للعمل الفني، فقد تحوّل فن التصوير من حالته القديمة التي كان معيارها الجمالي هو المحاكاة التسجيلية الوصفية إلى مفهوم جديد ارتبط بأحداث المجتمع ليصبح الفن انعكاساً حقيقياً أو شاهد عيان لمعطيات العصر.
هنا جاءت المستقبلية (مفهوم الحركة) والبنائية (ردة فعل للعلم) أو التعبيرية، والتكعيبية، والتجريدية، والسريالية.
على ذلك اكتسب العمل الفني في فترة الحداثة قيمة ذاتية، إذ تخطّى الأنموذج المثالي لعصر النهضة، ليقدّم أنموذجاً جديداً يعبّر عن إدراك الفنان لواقعه وقدرته على إعادة تفسير هذا الواقع، فكانت فنون الحداثة على تعدّد أنواعها واتجاهاتها ومصادرها تجمع بين التجديد والتحوّل.
وفيما بعد بدأت تظهر مفاهيم جديدة عما يسمى (الفن المعاصر) وهنا تتضح إشكالية الفهم النقدي بالخلط ما بين الحداثة والمعاصرة، فالفن المعاصر يقوم على استيعاب كل المدارس الفنية التي ظهرت فيما يسمى (الحداثوي)، أي إن الفنان أصبح ينتج لوحته من دون الاعتماد على أي من تلك المدارس، بل أكثر من ذلك يستخدمها لتنفيذ عمله الفني.
فقد أصبح المفهوم الحداثوي ينحصر في حالة واحدة متعددة الاتجاهات الفنية والفكرية في إنتاج اللوحة، إذ أصبحت اليوم اللوحة تحتمل كل تلك الأفكار البنائية، التعبيرية، التكعيبية، التجريدية..إلخ.
فقد أصبحت تلك المدارس أدوات يستخدمها الفنان لبناء لوحته، فهو يحتاج لإنتاج لوحة متعددة الأقطاب باعتماد عنصر طاغ في مساحة اللوحة ليتابع في وضع أفكاره باستخدام الخلفية التي تبنى على كل ما يجول في خاطر الفنان، وهنا يكمن الخطأ في الحكم على العمل الفني أنه حداثوي أو معاصر، فالحداثوي ينقسم إلى عدّة مدارس، أما المعاصر فهو كل المدارس، فنلاحظ مثلاً في لوحات فاتح المدرس الذي أنتج لوحة معاصرة تحمل كل مقومات اللوحة المعاصرة، إذ نراه يمزج في صياغة لوحته بين وجوه تبنى بواقعية ذات سمات تعبيرية على خلفيات تجريدية وعناصر سوريالية، وبناء تكعيبي بألوان تجريدية راقية تحاكي المشاهد بسرية راقية. لذلك فما ينتج الآن من أفكار تشكيلية هي خلاصة تلك الأفكار التعبيرية والانطباعية والواقعية والبنائية والتجريدية...إلخ.
امتزجت بعقلية بعض الفنانين وبقناعاتهم- ولوعهم الشامل لكل تلك الأفكار، ما نتج عن ذلك لوحة شاملة لكل المدارس، لذا كلمة (معاصر) هي تسمية تتهرب من طغيان الفكر الحداثوي، لذلك فعلى النقاد أن يدرسوا تلك الحقبة وما تلاها من مزج كل تلك المدارس ليحصلوا فيما بعد على قيمة فكرية تشكيلية بما يصح أن تسمى الآن (التكاملية)، ولكي نفهم العمل الفني المعاصر علينا أن نفهم بناء اللوحة بكل تلك الأفكار، فالعمل الفني المعاصر هو نتاج تراكم أفكار ومعالجات شكلية وبصرية، وقيم لونية تتحرك ضمن معطيات فكرية مدرسية تخصصت بدراسة أجزاء فكرية لبناء اللوحة، إلى أن جاء جيل جديد من الفنانين ليدمج كل تلك الأفكار التحليلية.
في قيام لوحة ذات بنية صحيحة لها قلب ووجه وشرايين وأطراف تستطيع من خلالها التحدث البصري بقيم علمية جمالية ذات لغة متكاملة للصورة البصرية المتكاملة، أي إنه في الماضي كان الفنانون يدرسون الجزء من الفكر التشكيلي، وذلك طبعاً ساعد على تطور الفهم نحو إعادة أو ابتكار الشكل من خلال سطح اللوحة التي هي عبارة عن سطح صغير يختزل معطيات جمالية ذات قيمة فلسفية ربما أجزم بإدخال هذا الفكر الجمالي بعلم (النانو) التشكيلي.
علينا أن نرتقي بفكرنا حول فهم اللوحة التي هي بدورها تصبح في أوقات كثيرة أكثر ثقافة من الناقد التشكيلي أو الباحث، فالفنان في كثير من الأحيان في سياق إنتاجه للوحة يحمّلها أفكاراً حسية معقدة ذات قيم علمية بصرية عالية المستوى في اختزال أحداث معاصرة من واقعه اليومي هو لا يستطيع التكلّم عنها إلا عن طريق ريشته ولونه وخطوطه التي هي بدورها تكشف لنا عما يجول في خاطره وفي أفكاره الحسية، لذا على الناقد والباحث أن يلتقط تلك المعطيات والأفكار ليحوّلها إلى مادة يسهل على الجمهور رؤيتها والتمتع والاستفادة منها، حتى لا يبقى الفن التشكيلي هو مجرد قماشة على جدار بليد لأجل التزيين والتفاخر لا غير.
المصدر: تشرين