الطير العائد إلى وطنه

الطير العائد إلى وطنه

لا يمكن لمقالة صغيرة أو ربما حتى كتاب أن يفي مظفّر النواب، الشاعر والسياسي والأديب، حقه من البحث.

أثار النواب الكثير من الجدل حول مواقفه التي أعلنها بوضوح في أدبه وشعره. ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن مظفر بما له وما عليه، عاش في زمن «جدلي»! كان زمناً صاخباً بالآمال الواهمة بانتصار الإنسان والحركة الثورية العالمية على وقع ما حدث في النصف الأول من القرن العشرين. بينما كانت الحقيقة على العكس من ذلك تماماً. كان زمناً للهزائم والانكسارات غير المفهومة لمن ملأ رأسه بالانتصار المحتوم.
عاش النواب هذه المرحلة وكان جزءاً منها، وعبّر عنها موقفاً وأدباً وشعراً. واستطاع توصيفها بما عرف عنه من شاعرية خالصة، وحساسية فريدة وغزارة في الإنتاج مؤثثاً قصائده بالغضب والشتائم والسخط.

معنى أن يكون للإنسان موقف

ثمة من يحاول «محاربة الظاهرة عبر تفريغها من جوهرها الثوري» حسب ما يذهب إليه د. محمد المعوش في بحثه المنشور في قاسيون العدد 1070 والمعنون بـ«مأسسة الفاشية والقطاع الروحي الأسود والمجابهة بنمط الحياة الجديد»، وإحدى هذه الطرق هو تقسيم الظاهرة والفصل بين أجزائها المتكاملة، وصولاً إلى تذريرها. قد يكون هذا نافعاً بغية دراستها ولكنه لا يتعدى ذلك، فكل ظاهرة هي كل متكامل في علائقها الداخلية وفي علاقتها بالظواهر الأخرى. هنا تحضر الكثير من الأمثلة، ومنها مثلاً محاولات تقسيم ما أنتجه كارل ماركس إلى ماركس (الفيلسوف) الشاب، وماركس (الاقتصادي) مما يؤدي إلى خلق حالة ذهنية تحول دون النظر إلى الماركسية ككل متكامل، فتنقسم الظاهرة على ذاتها، بينما تتطلب الموضوعية دراسة ماركس وما أنتجه من فكر ضمن سياق تاريخي محدد، وبالتالي فهمها أي «الماركسية» ككل متكامل وهكذا جرى التعامل مع رموز فكرية وتاريخية متعددة.
وكما يحدث في التعامل مع الفكر والسياسة والاقتصاد، يحدث في عالم الأدب والفنون وفي حالة النواب، جرت محاولة تأطير واختزال ما أنتجه. فهو أحياناً شاعر «سياسي» أو شاعر «غزل» أو.. إلخ. بينما هو كل متكامل. يمكن القول إن النواب كان «جرس إنذار» في مرحلة التراجع، في محاولته لفهم المرحلة التي عاصرها، وتسليط الضوء على ما فيها.

السياسة في الشعر

«الإنسان كائن سياسي» هذا ما قاله أرسطو قبل مئات السنين، ثمة من يأخذ على النواب ليس موقفه السياسي فحسب، وإنما حضور السياسة المكثف في شعره، رغم أن الشعر تاريخياً لم ينفض يديه من السياسة، بل على العكس كان حاضراً على مر الأوقات.
سؤال بسيط يطرح نفسه هنا ويحمل الجواب: هل يمكن للناس الهروب من السياسة؟ والسياسة تفرض نفسها علينا بقوة وتكاد تلامس جوانب حياتنا كاملة. وتحضر حتى في طبق الطعام الذي نتناوله!
ولكن هذا الإلحاح المبالغ فيه في حالة النواب، ليس على حضورها في شعره، بل هو انتقاد ضمني لما يحمله هذا الحضور من واقعية وقدرة على النفاذ إلى جوهر المسألة وهذا ما يفسر أن أصحاب هذا الرأي في معظمهم ينتمون إلى مؤسسة السلطة بينما تلقفت الجماهير أشعار مظفر السياسية وتداولتها واستمتعت بسماعها.

شاعر الخصوصية

لا يجيد الكثير من الناس فهم العلاقة بين الخاص والعام، فكيف إذاً بالقدرة على استثمارها والعمل بها. امتلك النواب القدرة على الانتقال من الخاص إلى العام وإيصال الفكرة من خلال هذه الجدلية، فاستخدم لغة بسيطة في مخاطبة الناس، واستطاع تطويع اللغة وتوظيف المفردة في اللهجة المحلية العراقية معطياً اللغة العامية العراقية بعداً جمالياً إضافياً جعله يصل إلى جمهور واسع فهمَ عمق ما يقصد، فكان رائد مدرسة في الشعر الشعبي. وساهم في تأسيس الحداثة في الشعر الشعبي العراقي. وكانت قصائده العامية في أغلبها شهادات على أحداث عاشها الشاعر بنفسه فقصيدة البراءة والأخت، جاءت رداً على محاولات السلطة إجبار السجناء السياسيين التخلي عن مبادئهم وإعلان البراءة منها.
في حديثه عن قصيدة «الريل وحمد»، يشبه النواب كتابته للشعر العامي بـ«التشكيل بالطين» قائلاً: «نعم العامية مثل الطين المختمر. في أول زيارة لي لأهوار جنوب العراق شعرت بذلك، الهور مائي وطيني وطبيعته انسيابية وأنا في القصيدة العامية أتحدث عن أوضاع العراقيين، قضايا الفلاحين مثلاً. العامية أكثر إيصالاً، أكثر شجناً».

موهبة «استحضار الرموز»

تجربة النواب الأدبية والشعرية منها على الخصوص غنية ومتنوعة، فامتلاكه لذائقة شعرية أصيلة وخلفية ثقافية ماركسية مكنته من استحضار التراث في الشعر وتوظيفه لخدمة ما يطرحه سياسياً وفكرياً. قال عن نفسه في إحدى القصائد: «وللقرمطية كل انتمائي».
من جهة أخرى تمكن النواب من استحضار أسماء الرموز المقاومِة آنذاك، أبطال الانتصارات الصغيرة جهيمان العتيبي خالد أكر وخالد الاسلامبولي وسليمان بن خاطر.. إلخ.

أطلق عليه العديد من الألقاب شاعر «الغضب» و«الهجاء» و«التمرد» و«الغربة».. إلخ، ولعل أكثرها قرباً إلى الحقيقة «شاعر القصائد المهربة» إذ كان الناس يتداولون قصائده ويتناقلونها مثل منشور سري، فشعره كان ممنوعاً، لكن صوته المسكون بالشجن العراقي وصل إليهم عبر أشرطة الكاسيت المسجلة. سكنت عميقاً في أرواحهم. وذلك قبل الدخول إلى عصر الإنترنت. حيث يجد المتابع لشعره، عشرات المقاطع المصورة عبر منصات العرض المرئي والمسموع مع مشاهدات تقترب من الأرقام المليونية.
ورغم أن النواب برز كشاعر لم يحفل كثيراً بطباعة دواوينه إلا أن أشعاره لقيت رواجاً وجعلت محبيه يلاحقونه من أمسية إلى أخرى لسماع طريقته الخاصة في التعبير وإلقائه المميز للشعر، وكان أيضاً فناناً تشكيلياً، وصوته من أجمل الأصوات العراقية الغنائية. غنى في أمسياته الكثير وأطرب سامعيه بصوته. إضافة إلى شعره المحكي المبثوث في فضاء الغناء العراقي.
الموجع في الأمر أن الرجل الذي عاش يحلم بالعودة إلى وطن حر ومستقر يحلم به، شيع في بلد مازال يئن جرّاء الاحتلال الأمريكي له وتتناهبه الصراعات:
أيْ إلهي إنَّ لي أمنيةً: أنْ يسْقُطَ القمعُ بداءِ القلبِ
والمَنْفَى يعودون إلى أوْطانِهمْ
ثُمَّ رُجوعي
.........
إلهي .. يا إلهي .. يا إلهي ..
إنَ لي أمنيةً ثالثةً
أنْ يَرْجِعَ اللَحْنُ عراقياً
وإن كانَ حزينْ

معلومات إضافية

العدد رقم:
1072