إما تعاظم البربرية وإما «فتح الكون»
تشكّل كلمات فواز الساجر على قصاصة الورق الأخيرة عن «عصر الضيق» تكثيفاً للاختناق الروحي. وتصير تلك الكلمات مركزيّة في ظل التصحير الضمني الذي أصاب الحياة خلال العقود الماضية وإصابتها في مقتل بعد تعطل هذا النمط الاغترابي نفسه بسبب مختلف الأزمات الحامية منها والهجينة في المركز كما في الأطراف. وكلّما تعاظم الضيق كلّما نضج الطرف النقيض، أي اتجاه الحياة، الذي يتطوّر مع اشتداد التناقض مع تصحير الحياة وضيقها. ولكن هذا الصراع لن يمرّ دون تشويه الوسيط بين العالمين النقيضين، أي شخصية الإنسان من حيث وظيفتها التنفيذية وضابطة إيقاع الممارسة، لا بل هي الشكل الذاتي من نهج الممارسة. وهنا يوضع كل تاريخ علم الاضطرابات العقلية والنفسية أمام لحظة الحقيقة التاريخية ألا وهي المرض الجماعي لمجتمع «انحرف» عن السواء بكامله، فدخلنا عصر الاضطراب الجماعي.
مؤشرات تاريخية
ظهرت مبكراً في المجتمع «المتحضّر» ملامح اضطرابات كانت مؤشرات مبكرة على تشوهات المجتمع الرأسمالي وتناقضاته. فالانفجار الكبير في تطوير القوى المنتجة البشرية والتكنولوجية في مقابل كبحها، والاصطدام بين هذين الاتجاهين التاريخيين، أنتج «عوارض» أو ما يمكن تسميته (حسب تعبير ألكسندر لوريا) متلازمات نفسية-عقلية شكلت مادة ما يسمى اليوم بعلوم الاضطرابات النفسية أو علم النفس المرضي- «البسيكوباثولوجي». هذه العوارض في ظهورها المبكّر شكلت مقدمات لما نحن في صدده اليوم. فما أطلق عليه «انحرافات» في الشخصية صار اليوم القاعدة والوباء. ومراجعة سريعة لتاريخ القوى الاجتماعية التي انخرطت مبكراً في العمل الذهني (وتطورت لديهم ملكة التجريد)، في العلوم والثقافة والفنون والأدب والرياضات الذهنية بشكل عام، هؤلاء كانوا في غالبيتهم معبّرين مباشرين عن هذه «العوارض»، ولا مجال لذكر نماذج عنهم هنا. بل تكفينا العودة إلى دراسات العلم السائد لنعرف أن أغلب هؤلاء المبدعين كانوا من أصحاب «الاضطراب» العقلي- النفسي. من رسّامين وكتّاب وشعراء وعلماء ومسرحيين ولاعبي شطرنج وحتى سياسيين وغيرهم. منهم من انتحر ومنهم من كانت تعاسته المستمرة مصدر إبداعه. هذا التوصيف فيه إجحاف لحق هؤلاء بالألم العظيم. لا بل فيه تجاهل لعمق التشوه في المجتمع. هؤلاء كانوا مرايا لجوهر التناقض، ومن قال إن فهم التناقض فردياً يجعل منه سهلاً على الفرد؟! هؤلاء القلة وبعد توسع هوامش الذات الفردية خلال العقود الماضية بسبب نمط الحياة الليبرالي صار الحالة العامة للمجتمع.
الشخصية بين المطرقة والسندان
إن كان القلة الذين لمسوا هذا التناقض بين الاتجاهات التاريخية بشكل من الأشكال، وقبلوا وجوده اعترافاً، فإن الغالبية اليوم وعلى العكس تعاند هذا القبول للتصور المتناقض المؤلم عن العالم. هذا العناد هو استمرار لزخم الاندفاع الليبرالي في العقود الماضية وحضوره الضخم في التصور عن العالم في أذهان الغالبية. وهذا العناد ولكونه خارج الفعل والتأثير في التناقض المذكور، يصبح شيئاً فشيئاً في موقع العجز، فتفيض المشاعر ويغرق الفرد في تداعيات هذا الانفجار بين الاتجاهين المتناقضين. فالشخصية هناك التي هي التعبير الممارسي عن القسم الواعي الفاعل من العقل تخرج من المشهد. لا بل هي تتشوه في محاولتها الموائمة بين الاتجاهات المتناقضة من موقع فقدان الأدوات السياسية والمعرفية المطلوبة. بل على العكس، هي لا تزال تعتمد في نظرتها على إدارة المعركة وضبط الممارسة وفهم العالم على تلك الأدوات الليبرالية في فهم العالم وسرديته. هذا التشوه نجده أيضاً في أدبيات الاضطرابات النفسية ليس فقط في التفكك الذي يصيب الشخصية، حيث يفلت العالم الداخلي والخارجي من قبضة القسم المفكّر لتصبح الشخصية في مهب عواصف إلحاح الداخل ومعاندة الخارج وضغطه وعدائيته فتذوب في الموضوع، أي الشخصية المطحونة التي تقاعدت من الحياة، بل وأيضاً في ملامح ما سمّي بالشخصية الإنفجارية التي يتضخم فيها الطرف الذاتي ليفيض على حساب الموضوع. يمكن القول اختصاراً إن مجتمع الاضطرابات التي تعتبر مركزية في عالم المرض النفسي هي التي تتمحور حول التناقض بين التيارين المذكورين، تيار التصحير وتيار الحياة الصارخ. بعضها يعبر عن طرف من أطراف التناقض بقوة، وبعضها يجمع بين الاثنين بشكل ظاهر (وجد هذا نموذجه في انفجار الشهيد الحلاج الذي سلك مسار الانتحار ليداوي فيض الحياة لديه).
توازن القوى العالمي كقاعدة مادية تاريخية للهامش أعلاه
يشكل التوازن العالمي اليوم قاعدة مادية تحافظ على هوامش عدم الاتجاه الكامل نحو الحرب التي تنقل الصراع الاجتماعي إلى أشكال مباشرة للحفاظ على الذات، وتضيق من هوامش الصراع المعنوي «وترفه». هذا التوازن الذي هو نتيجة لصعود خط ثوري في القرن الماضي لم يكن حاضراً في تاريخ المجتمع الرأسمالي كما هو اليوم. هذا التوازن يحافظ على هوامش حضور المادي والمعنوي ولو بشكل غير متناسب بين الاثنين بين مجتمع وآخر، أو بين مرحلة زمنية وأخرى. وهذا الطابع العام يسمح بتطور الصراع بين الاتجاهين المذكورين (التصحير وانفجار الحياة) إلى مستويات مُدرَكة للعقل الفردي. وهذا «التعفّن» في المكان هو ما يسمح باحتدام الصراع بين التيارين ما يعطي مفهوم البربرية شكله الملموس الواقعي على المستوى النفسي.
فتح الكون
حتى لا تسقط الشخصية صريعة اشتداد التناقض وبربريته، يجب مدّها أولاً بأدوات نقيضة لتلك التي تكبحها عن إدارة الصراع. وهذا لن يحصل بشكل فردي محض، بل هو مشروع سياسي علني يحمل فيه تصوراً جديداً عن العالم ونمطاً جديداً للحياة مع ما يعنيه ذلك من أدوات فهم وممارسة تتناسب مع تناقضات المرحلة وبناء الجديد. وهذا المشروع عالمي بالضرورة، في تناسب مع المواجهة الاقتصادية العسكرية والسياسية العالمية الحاصلة بين عالمين. وخطر تأخيره ليس عادياً بل سيكون وزناً معادياً في تلك الدول الصاعدة نفسها. خطر وجودي. وهذا يحتاج مؤسساته الإعلامية والعلمية والأطر الجامعة للقوى الحية خارج إحداثيات المعركة السياسية المباشرة، من فنون وأدب وعلوم وثقافة وكل أشكال العقل الحي من جهة، ومن جهة أخرى ضم أوسع القوى الاجتماعية ضمن هذا المشروع في حركة «سلم» عالمية معادية للموت الكليّ الذي هو الشكل الجديد لحركة السلم العالمية والاتجاه الإنساني للحفاظ على الحضارة البشرية في هذه المرحلة. هذا يجب أن يكون على جدول الأعمال وبشكل لا يمكن تأجيله، كنقيض لعصر الضيق فـتفكيرنا ضيق...مطمعنا ضيق، أفقنا ضيق... عالمنا ضيق، مصيرنا ضيق، موتنا ضيق... الضيق، الضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ... سيقلتنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء. سيقلتنا الضيق! افتحوا الكون... سيقتلنا الضيق! الضيق».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1069