الهجوم التاريخي على عناصر الحياة سَيلد حياة أرقى

الهجوم التاريخي على عناصر الحياة سَيلد حياة أرقى

اعترف عتاة منظّري الأيديولوجيا الرسمية في مرحلة أزمتها أن العقل الإنساني في هذه المرحلة التاريخية يطرح الأسئلة الفلسفية الأساسية والنهائية، وهكذا فإنهم يشاركوننا التحليل بأن المرحلة الحالية من حيث موقعها التاريخي تطرح على البشرية كل القضايا الوجودية دفعة واحدة. وبروز الأسئلة الكبرى يجد أساسه في أزمة تفكك المجتمع الحالي والتهديد الذي يطال هذا المجتمع في كليّته. فالعقل يعي قضيته لمّا تواجه هذه القضية رفضها من قبل الواقع. والواقع المأزوم اليوم «يرفض» الوجود الإنساني كلّه في كون الحياة على الكوكب مهددة ككل. إذا ما هي الملامح الخاصة التاريخية التي تطبع الوعي بطابعها وتخلق بالتالي وعياً نوعياً يعكس نوعية الواقع الجديدة نفسها؟

الوعي انعكاس للواقع

انطلاقاً من قاعدة أن الوعي هو انعكاس للواقع يمكن القول بأن وعي المرحلة الحالية له طابع نوعي خاص انطلاقاً من نوعية المرحلة نفسها. فالمرحلة الحالية لا تمثل فقط انهياراً للنظام الاجتماعي الرأسمالي الذي ساد طوال قرون من الزمن، بل هي تمثل انهياراً وتهديداً لوجود الحياة على الأرض بشكل عام، وتطرح في ذات الوقت مسألة تجاوز التقسيم الطبقي للمجتمع الذي لا يمكن معه الحفاظ على الحياة على الكوكب. وبذلك فإن المرحلة تزخر بكل الصراعات التاريخية التي شهدتها البشرية مكثفة في لحظة تاريخية واحدة. وهي بذلك تزخر بأشكال الوعي التي رافقت هذه الصراعات. وهذا ليس خاصاً بفئة معينة من البشر، بل هي حالة وعي عامة وشاملة.

الصراعات وأشكال
الوعي الخاصة بها

إن أشكال الوعي المختلفة هي تناول للواقع من جوانب ومستويات مختلفة. ويمكن مثلاً تمييز الوعي الأخلاقي، السياسي، الجمالي، الفلسفي... ويمكن القول اليوم بأن المرحلة الحالية في كونها شديدة التشابك من جهة، وعميقة المعنى نسبة للوجود الإنساني ككل، فهي إذا تطرح الصراعات التاريخية السابقة كلها في آن وتجمع بذلك وتقرّب مختلف أشكال الوعي وتدمجها. فالوعي السياسي المباشر اليوم لا ينفصل عن الوعي الفلسفي ولا الجمالي في التعامل مع الواقع... هذا التوحد فرضه الظهور الموحّد للقضية الاجتماعية عالمياً التي وصلت اليوم إلى نهايتها المنطقية.

المرحلة تستعيد كل المعاني

هذا التقارب في أشكال الوعي يمكن إيجاده حاضراً في التاريخ بشكل مبكر، ولكن في كتابات لبعض «عظيمي الألم» و«عظيمي الفرح» في ذات الوقت، والذي واجهوا القضايا النهائية مبكراً في عقولهم، قبل أن تطأ أقدام الغالبية أرض هذه القضايا. وفي حينها قدّموا في أعمالهم الفنية والشعرية والسياسية شيئاً من كل شيء. فلا السياسة تنفصل عن الشعر، ولا الشعر ينفصل عن الفلسفة، ولا الفلسفة تنفصل عن الموسيقى... أليست كتابات ماركس نفسها ذات بعد شعري وفلسفي وسياسي في آن؟ ألم يحضر البعد الشعري في كتابات لينين السياسية نفسها؟ أليست روايات ألبرتو مورافيا سمفونية مقروئة؟ أليس شعر بريخت دروسا في الفلسفة؟ أليست كتابات مهدي عامل شيئا من كل ما سبق؟ هذا الغنى في المنتوج ليس جمعاً كمياً لأشكال الوعي المختلفة، بل هو توليفة نوعية من كل هذه الأشكال يعطينا غنائية تاريخية خاصة، فيها من التراجيديا اليونانية مأساتها حتى الواقعية الاشتراكية، مروراً برومنسية نهاية عصر الإقطاع. في هذه التوليفة النوعية تحضر قيمة جمالية جديدة هي ظهور كل القيم الجمالية التاريخية ولكن في بعد جديد يغيّر فيها، فلا الطبيعة في الرومنسية السابقة تحمل ذات البعد الذي تحمله اليوم، ولا التراجيديا التي تصور عصر بطولة سابق وهزيمته ومأساته هي بذات التوتّر التاريخي السابق للتراجيديا بل هي أعظم بما لا يقاس وكيف وكل «الآلهة» تُذبح والأبطال، والواقعية نفسها أشدّ حدة لأنها تصوّر واقعا شديد الحدة نفسه، ولا منافي الشعر وخسائره وطموحاته على ذات مستوى الشعر في التاريخ... كلها تحمل مضامين أثقل، لا بل تحملها في آن واحد. وهذا المضمون ستستجيب له جماليات المرحلة بشكل خاص لا يمكن التنبؤ به مسبقاً، ولكن يمكن القول بأن أدوات ومساحة هذه الجماليات ستكون توليفة من كل ما شهده التاريخ على مستوى الفنون والأدب والشعر. والأهم بأن السياسة ستتلون بهذه المسحة الجمالية، بلا انفصال عن ملامح الفلسفة بالضرورة. فالمضمون الذي تعالجه السياسة والفن والأدب والشعر والفلسفة عظيم الشأن بحيث سيجعل من منطوقها انفجارياً إذا أمكن القول. هكذا انفجرت سمفونيات بيتهوفن بأنشودة الفرح لما الآلات الموسيقى لم تعد تكفيه للتعبير عن حالته الذهنية، وهكذا انفجرت نصوص بريخت بأدوات كتابية جديدة حتى يقدر على التعبير عما يدور في عقله الحيّ.

الهجوم التاريخي على الحياة

إن الهجوم الحالي على عناصر الحياة من قبل النظام الاجتماعي المعادي للإنسانية كما هو يستدعي كل ما هو ظلامي في التاريخ والوعي التاريخي، فهو بالضرورة يستجلب كل ما هو حيّ في تاريخ البشرية. وفي عملية استجلابه تلك لعناصر الحياة التاريخية يخلق أرضية لوعي خاص أرقى من كل ما شهدناه سابقاً، هي أرضية الإنسان الجديد الذي وعدتنا الأدبيات بأنه سيولد مع المجتمع الجديد. لا نملك اليوم إلا أحافير مبكّرة لرسم ملامحه العامة التي تزخر بالحياة. فالهجوم الذي تقوم به الإمبريالية لا يحاول فقط الإطاحة بكل ما هو تقدمي تم إنتاجه في «القرن الثوري» الماضي من دول ومؤسسات إجتماعية وتركة ثقافية، بل يحاول الإطاحة بكل ما هو تقدمي في التاريخ البشري. فهل يمكن تخيّل الحركة النقيضة التي ستطل بها عناصر الحياة تلك في وجه هذا الهجوم؟ سنرى انفجاراً لحركة وعي جديدة وبالتالي لإنسان جديد لا ينفصلان عن التشظي الذي يعيشه إنسان اليوم بل يجدان أساسهما في هذا التشظي. أو بالأحرى هكذا علّمنا التاريخ أنه سيحصل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1065