لحظة الوعي التاريخية نحو مجتمع بشري لذاته

لحظة الوعي التاريخية نحو مجتمع بشري لذاته

مجدداً نحاول أن نظهر وزن الفكرة أو دور الوعي في المرحلة التاريخية الراهنة، وهذه المرة من باب ارتطام الوعي بالواقع، حيث تنخلق اللحظة الواعية بهذا الواقع، ما يعظّم مساحة الفكر في التأثير على العمليات الموضوعية أكثر من أية مرحلة سابقة.

التصادم مع الواقع: لحظة الوعي

في النسخة الحالية من الفكر السائد، الذي من مهمته تأبيد الواقع ومنعه من التغيّر نحو نموذج إنساني عادل، نجد أكثر أشكالها وضوحاً وتطرفاً كالتي تم الترويج لها، ونالت النقد الخاص بها في قاسيون، ومنها «الفيلسوف الإسرائيلي» نواه هراري الذي نالت كتبه ومقابلاته شهرة عالمية مصطنعة بحكم دوره الأيديولوجي في التصدي للأزمة الفلسفية الأيديولوجية للرأسمالية أمام أزمتها العميقة (مراجعة مادة: الرأسمالية المرعوبة تشاركنا التحليل مرغمة، ولكن!). من أساسيات مقولات هراري التي يتشارك فيها مع الخط العام للوعي السائد المأزوم هناك فكرة أن البشرية اليوم تواجه جميع أسئلتها مجتمعة دون أن تملك لها الإجابات، وهذا ما يلتقي مؤخراً مع تحليلات الباحث الروسي فوروسف الذي نشرت حوله مادة مصورة وثلاث مواد مكتوبة في قاسيون، والذي يقول بأن النموذج الرأسمالي وفي سياق عدم قدرته على إعادة تجديد الحياة، فهو يدفع بالمجتمع نحو ما يمكن تسميته «مجتمع اللا معنى» أو «مجتمع الحيوانية والبربرية». هذا يعني أن الوعي السائد اليوم في صيغته وسرديّته وروايته على العالم لا يملك صيغة متلائمة مع الأزمة وتطورها، وبالتالي فإن النموذج الحضاري الذي تعدنا به الرأسمالية هو نموذج لا يملك تبريراً ذهنياً مقنعاً كما سابقاته لا بالقوة المسلحة ولا الناعمة. وإذا ما كثفنا ما سبق، فيمكن القول بأن الوعي الخاص بهذه المرحلة يصطدم مع واقع جديد «إشكالي» لا يملك أدوات استيعابه واستدخاله وعكسه، فتتشكّل هنا ما يسميها عالم النفس السوفييتي فيغوتسكي بلحظة الوعي، التي تنتج عن حاجة موضوعية أمام الفكر لكي يعالج الظاهرة- المشكلة التي أسست لرفضه، أي رفض الفكر ورفض حامله الفرد.

المجتمع في ذاته والمجتمع لذاته

درجت الأدبيات الماركسية على معالجة قضية وعي الطبقة لذاتها وانتظامها الواعي تجاه الواقع، ما يحولها من طبقة في ذاتها لها وجودها الموضوعي، إلى طبقة لذاتها لها وجودها «الذاتي». وفي هذه المرحلة من اصطدام البشرية ككل مع النموذج الرأسمالي المهدد للحياة، والذي يجعل من وعي غالبية الفئات الاجتماعية في اصطدام مع الواقع المأزوم، يمكن القول إن المجتمع بشكل عام يتحول من مجتمع في ذاته إلى مجتمع لذاته. وهذا يعني بالضرورة أنه يمكن أن يتحول ذلك إلى حالة من الفعالية التاريخية كما حصل عندما تموضعت الطبقة العاملة عبر وعيها الثوري الممثل بتنظيماته ولعبت دورها التاريخي. هذا ليس بجديد، فالمعادلة التاريخية التي تقول بـ: إما الاشتراكية أو البربرية / الفناء هي التي تتضمن إمكانية/ ضرورة انتظام المجتمع لذاته. والمقصود بالمجتمع هنا هو المجتمع البشري على الأرض. ولكن هذا يتطلب مجدداً الأدوات اللازمة لكي يحصل الطنين بين الممكن الموضوعي وتحوله إلى حالة فاعلة منتظمة. أي هناك حاجة لتحميل لحظة الوعي هذه مضمونها، وتأطيرها في حالة عالمية توازي طبيعتها العالمية المترابطة والمتشابكة. فالاتجاه الأممي الذي برز في بداية القرن العشرين يحتاج اليوم إلى رفع وزنه في الحركة السياسية الثورية- التقدمية على قاعدة الترابط الشديد العالمي وتعقيد الحركة الذي حصل طوال العقود الماضية. وهذا أيضاً ليس بالقول الجديد. فمهمة تحويل المجتمع- البشرية إلى مجتمع لذاته يتخطى الواقع الخالص لدولة ما وبالتالي لحزب ما وحيد. فوزن العام اليوم أكبر من الخاص في طبيعة الصراع.

مجدداً حول سلوك الميديا السائدة

هذا الوزن العالي للعام، والتعقيد والترابط والتكثيف في الحركة العالمية، أمام اصطدام الوعي السائد بأزمة النمط المعاش الموضوعي، يظهر أكثر ما يظهر في سلوك وسائل الدعاية والنشر والتواصل ومن ضمنها المنصات الإخبارية وتحديداً «العاجل» منها. فالوعي وعندما يدخل في حالة اصطدام مع الواقع يدخل في حالة من الاستثارة الدائمة التي تجعله هو نفسه جزءاً من عملية النقد، أي ترتفع هنا حالة النقد الذاتي (وعي الذات). هذه الاستثارة تتطلب اليوم أن يتم إشغالها وجذبها وملؤها بما يناسب طبيعتها المثارة والحساسة والنهمة للجديد. وهنا يأتي دور سلوك أدوات الهيمنة الأيديولوجية التي تحاول أن تجاري الوعي في حاجاته ومتطلباته تلك، فاليوم هناك طغيان للخبر السريع والقصير والمكثف، لصالح المطولات، الخدع المموّهة بسيناريوهات لها عدة طبقات كالأفلام والقصص والروايات التي تحمل الرموز المبطنة. القضية إذا ليست فقط في تحويل الكلام المكتوب إلى صورة وصوت لما تحمله الأخيرة من قدرة تأثير عالية على الوعي، بل في سرعة المادة وبساطتها، وهنا تبرز مركزية «الخبر العاجل» أو ما يوازيه من التضليل الإعلامي، وإعلام الفضيحة، في سلوك أدوات الهيمنة الفكرية للنظام العالمي.
السرعة والتعقيد والترابط في الصراع السياسي (هنا نشير مثلاً إلى السلاح فرط الصوتي كمؤشر على هذه السرعة) يقابلها تسارع وتعقيد على مستوى الصراع الفكري (وهنا نشير إلى تكنولوجيا التواصل والنشر السريع، المكافئ للسلاح السريع وفرط الصوتي بغض النظر عمّن يملك هذا السلاح). هكذا تتكامل المعطيات التي تؤشر على حجم الفراغ المتروك في الصراع العالمي من أجل مصير البشرية، أي الصراع الفكري ورسم ملامح الوعي المتلائم مع الحاجات والمهام لما يجب أن يكون عليها المجتمع القادم. فلحظة الوعي التي تشكّلت نتيجة الاصطدام التاريخي للفكر البشري مع الواقع المأزوم لنمط الحياة الرأسمالي المدمّر للوعي والجسد والطبيعة، هذه اللحظة كما هي تفتح الباب نحو أشكال الوعي الرث والفراغ العدمي على طريق البربرية، فهي أيضاً على النقيض من ذلك تؤسس القاعدة المادية لتحويل المجتمع من مجتمع في ذاته إلى مجتمع لذاته. وهذا أقل ما يقال عن ضخامة الإمكانات التي تحملها هذه المرحلة النوعية التي كل شيء فيها على قدر ما فيه من آلام وبشاعة، له من وجه التاريخ الحيّ وجمال الحياة الواعية للبشرية الشيء الكثير.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1055
آخر تعديل على الإثنين, 31 كانون2/يناير 2022 20:01