الرأسمالية المرعوبة تشاركنا التّحليل مرغمة، ولكن!
كما تمت الإشارة في مواد سابقة، هناك ازدياد لوزن المستوى الإيدولوجي وتوسع دوره في الصراع، فلا يعود أيضاً محصوراً في فئات محددة (مثقفي الطبقة المحددة) تمارس المواجهة الفكرية بين الرأسمالية والبديل الاشتراكي، بل يتوسع ليطال الفئات الاجتماعية الأوسع، وذلك على أساس ازدياد هامش العمل الذهني بمختلف أشكاله، وانكباح دور المستويين: السياسي (بسبب القوى الصاعدة) والاقتصادي (المأزوم) للرأسمالية.
تكثيف واعتراف
أيضاً، هناك مركزة شديدة في هذا المستوى لحاجة الفكر الرأسمالي أن يخوض المعارك الفكرية كلها دفعة واحدة، لقصوره عن خوضها متفرقة. بسبب أن القضايا العملية عالمياً في ترابطها، تعكس الأزمة الشّاملة للرأسمالية.
إضافة إلى الترابط والتداخل الشديد، فإن انفجار القضايا المتزامن بسبب التّماس مع الحدود التاريخية للرأسمالية، يفرض أيضاً صعوبة تمويهها، فلم تعد تنفع وسائل الاستيعاب (الحريات الليبرالية وأدواتها المبنية على أسس دولة الرفاه)، ليس في دولنا التابعة فقط، حيث وسائل الاستيعاب مكبوحة بنيوياً، بل في المركز الغربي كذلك.
ظاهرة مصطنعة جديدة
ما سبق أعلاه، يُظهر حجم الرعب الذي يعيشه الفكر السائد لناحية انهيار سرديته عن العالم، وبالتالي شرعيته، وكل القوى تتجند لصالح تلك المعركة. وآخرها التي تحمل ملامح التكثيف والاعتراف، ولكن في ذات الوقت ملامح التشويه، هو ظاهرة مصطنعة جديدة حول أستاذ جامعي «إسرائيلي» في الجامعة العبرية بالقدس، هو «يوفال نواه هراري»، على أنه عالم تاريخ وفيلسوف واجتماعي، له ثلاثة كتب منذ 2014 حول التاريخ، والمستقبل، و21 درساً للقرن الـ 21، اعتبرت الأكثر مبيعاً عالمياً. أطل على منابر أغلب الجامعات الغربية المعروفة، وعلى منصات الحوار العالمية كـ «تيد TED»، وظهر أيضاً في برنامجين حواريين في الشهرين الماضيين، الأول لشركة أمازون والثاني: لغوغل، حاصداً فوق الـ 440 ألف مشاهدة على يوتيوب وحده.
الجانب الروحي وأزمة الليبرالية والتهديد التكنولوجي
إن الحلقات التي تضمنت شروحاً عن مضمون الكتب، ورؤية «المفكر» كثيفة في المواضيع ومتنوعة، وهذا المطلوب منها، ولكن يمكن الخروج بخلاصات أساسية. أولها: إن «هراري» يعلن أن الجانب الروحي لأول مرة في التاريخ يُطرح كمسألة عملية مطلوب الإجابة عنها. فحسب قوله: لم تعد مسألة تخص فلاسفة محددين، بل أصبحت مسألة معني فيها البشر كلهم، خصوصاً حول معاني حياتهم والوجود وتفسير الحياة وأهدافها. إذاً، هو إعلان صريح أن السردية الرسمية لا تملك الإجابة عن الأسئلة الروحية المطروحة، حيث يُعلن «هراري» أنها كـ «قصة حياتية» منتجة قد تكون بحاجة لإعادة تعديل. ويضيف: إن الجانب النفسي اليوم هو الأكثر حضوراً في معاناة البشر على أساس الأسئلة الروحية أولاً، وثانياً: على أساس التبدلات السريعة العالمية التي تفرض على القوى العاملة «أن تعيد خلق نفسها كل عدة سنوات للتلائم مع سوق العمل المتغير»، خصوصاً في ظل «عدم قدرتنا على التنبؤ بالمستقبل».
واستكمالاً يقول «هراري»: إن النموذج الليبرالي المستند إلى مسألة «الحرية الفردية» مأزوم أيضاً، وتفسيره لذلك يكمن أن الحرية الفردية اليوم لم تعد موجودة (وكأنها كانت فعلا موجودة في ظل الليبرالية) بسبب القدرة التكنولوجية الجديدة والذكاء الاصطناعي القادرين على التنبؤ والتحكم بعقل الفرد ومشاعره لغايات الربح. حيث إن تطور التقنية البيولوجية والذكاء الاصطناعي قادرين على قراءة الإنسان اليوم، الذي لم يكن من الممكن سابقاً قراءته حسب قوله، لصعوبة الحصول على المعطى الدماغي والعصبي والكيميائي البيولوجي، ليردّ الإنسان إلى هذا المستوى، نافياً وجود ذات إنسانية بل خوارزميات بيو- كيميائية، أي: نفي دور القوانين الاجتماعية ضمنياً.
الدعوة التبشيرية
والحل الفردي- الحكومي
أمام هكذا واقع منفجر، يقدم «هراري» كلمات السر نحو الحل: «لا أعرف الإجابة... الأهم هو إثارة الأسئلة»، ولكنه يُقدم تصوراته التبشيرية التي لا تخرج عن الحلول الفردية والتبشيرية وتغييبٍ للرأسمالية. أولاً: يجب أن يتملك الإنسان ذكاء عاطفياً واستقراراً ومرونة عقلية أكبر ليقدر على التلاؤم مع التحولات الكبرى، وثانياً: أن يعرف ذاته (التي نفى وجودها في مكان آخر) ليقدر على التحكم وتحديد ما يريده فعلاً من خلال الوسائل الدارجة كالتأمل واليوغا والعزلة في الجبال أو المسير في البرية. إضافة إلى ذلك على الشركات أن تقتنع، والحكومات أيضاً بعدم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمحركات البحثية والتكنولوجيا عموماً من أجل الربح، بل لصالح البشرية التي تواجه أخطاراً ثلاثة رئيسة: تغير المناخ، والمخاطر التكنولوجية، والحرب النووية. دون تحديد أساسها الاقتصادي الرأسمالي، مع قوله بأن اقتصاداً بديلاً هو ضرورة: اقتصاد الدخل العالمي!
القدرة على التأثير
ورسائل على الهامش
عدم طرح الإجابات وتناقض الطرح دليل على الأزمة التي لا تملك الرأسمالية إجاباتها. ولكن الجديد النوعي: أن ملامسة علنية للتناقضات من قبل الفكر السائد من البوابة الروحية النفسية ضرورة تساعده على البقاء في دائرة الجذب والتأثير عندما لم يعد ينفع التمويه، ولو من باب الـ «لا أدرية» والعدمية. حيث بالمناسبة حصل نقد واضح للدَّين من قبل «هراري»، كانعكاس لتتعمق الأسئلة الفلسفية شعبياً، والتي لا يحمل الدَّين إجاباتها كلها. وفي سياق التصويب الناري النفسي الكثيف والمُركّز للكمّ الكبير من الأفكار والشُّحن العاطفية العالية (بالمناسبة اسم النظرية المقدمة: نظرية التأثير) التي تطال مكمن معاناة البشر، تمرّر رسائل سياسية حول المخابرات السوفييتية (الكي جي بي) التي: «لم تكن تملك وسائل التحكم بالبشر كما اليوم»! أو هوية الكاتب نفسها التي تُعطي شرعية ما للكيان الصهيوني، أو المقارنة بين «ديمقراطية أمريكا» والدول «القمعية»!
كل القضايا في مكان واحد دليل الأزمة العميقة، وما على الفكر النقيض إلا الهجوم في هذا الميدان الثقافي الأيديولوجي، فالسائد مرعوب أمام انحلال هيمنته الفكرية.