الالتحام التاريخي والاحتكاك الصارخ

مبدأ التناسب بين البنيتين

إن مبدأ التناسب بين البنيتين الفوقية والتحتية هو مبدأ أساس لفهم التطورات في التفاعل بينهما. يجب أن تتجانس البنيتان في علاقتهما من أجل تماسك النظام الاجتماعي الذي تمثلانه. والبنية الفوقية وعلى الرغم من كونها تجد أساسها في البنية التحتية، ولكنها ليست انعكاساً سلبياً للأخيرة، بل لها فعالية تنبع من الطابع الفاعل للوعي كونه محمولاً من قبل العنصر البشري، الذي يمثل الجانب الفاعل في التاريخ. ولذلك فالتجانس والسمة الفاعلة للبنية الفوقية في التأثير على البنية التحتية يسمحان بالقول بأنه في كل مرحلة تاريخية تختلف سمات هذه العلاقة بين البنيتين. التذكير بذلك يسمح لنا بالاستنتاج بأن المرحلة النوعية الحالية ولا شك ستعطي طابعاً نوعياً للعلاقة بين البنيتين. فالمرحلة الحالية بما هي أزمة شاملة وعميقة للرأسمالية منتجة بذلك شروط وجود إجتماعية جديدة لتمظهر قانون تدمير الطبيعة والبشر في مرحلة متقدمة وكارثية في ظل نظام الهيمنة الهجين الجديد الذي تم إرساؤه في العقود الماضية، إضافة إلى هذه المرحلة التي يواجه فيها النظام الرأسمالي تناقضات داخلية منها مثلاً أنه مكبوح القدرة على ممارسة عنفه التاريخي الضروري له لتأبيد وجوده وذلك لوجود كتلة تاريخية وريثة مرحلة التقدم الثوري في القرن الماضي، هذه السمات تجعل من الشروط الصراعية لها خصوصية نوعية جديدة.

الهيمنة كممارسة

إن الهيمنة بشكليها المادي والمعنوي هي ممارسة، وليست معطىً خالصاً وجاهزاً. ولهذا فإن البنية الفوقية والتي بقسم كبير منها هي تمظهر الوعي في أشكاله المختلفة فإنها تمثّل ممارسة النظام القائم في حقل الوعي. إذاً هي عملية وبالتالي لها هدف هو منع الواقع من التغيّر. هذا الهدف يتحول إلى شكل وأدوات تحقيقه مع تحول الشروط الصراعية للواقع المطلوب منع تغييره. في نهاية التحليل هي عمليّة تعمية وتضليل وتشويه وتبرير. وهذه العملية تسهل أو تصعب حسب الهوامش التاريخية التي يملكها النظام القائم. هذا الهامش التاريخي الذي انفتح مؤقتاً أمام الرأسمالية في النصف الثاني من القرن الماضي بسبب تراجع وزن النموذج الاقتصادي الاشتراكي عالمياً، وهو ما أعطى عملية التعمية والتضليل طاقة كبرى وذلك من خلال الاستناد إلى هامش واقعي مارس بدوره لعبة التضليل الممارسي للقوى الاجتماعية في حرف حقيقة تحقيقها لحاجاتها المادية والمعنوية. هذا مثال على العلاقة بين البنيتين هنا. ولكنّ هذا الهامش عاد وانغلق مجدداً في بدايات القرن الحالي. ولكن هذا الانغلاق لم يكن انغلاقاً متكرراً، بل يحمل معه التناقضات الجدية التي خلقها الواقع الجديد لشكل الهيمنة الجديد المادي- المعنوي. محمولاً على التوسع والتمركز والترابط الحاصل جراء “العولمة” طوال العقود الماضية. ولهذا فإن شروط الوجود المادية (التحتية) لانغلاق الهامش هو أزمة مهددة للبشرية في كونها مدمرة للعقل والجسد والطبيعة. وهي أيضاً أزمة مكبوحة التفجير نسبياً لوجود الثقل المقابل وهو هنا بالتحديد الوزن الكبير لروسيا والصين كوريثتين موضوعيتين لمرحلة الصعود الثوري السابق. وهنا بالتحديد يواجه النظام صعوبة في ممارسته التعموية تلك نتيجة لشدة المعاناة الواقعية.

أدوات متلائمة

ولهذا فإن النظام اليوم في ممارسته الأيديولوجية يُظهر كل ما لديه من أدوات. في السنوات السابقة حاولت الأيدلوجيا الرسمية ممارسة لعبة الفلسفة المثالية في أشكالها الأكثر تطرفاً أي في نكران الواقع ككل، هروباً منه، وهو ما يمكن إيجاده في الأوراق العلمية والأفلام وبعض المقولات المعمّمة. ولكن كما يقال فالوقائع عنيدة، ولهذا لا يمكن لنكران الواقع مثالياً أن تنفع. فتصاعد إقحام الإيديولوجيا الرسمية أسلحتها الأكثر قذارة من افتراء وكذب وتجاهل وإنكار مراهق في شكلها الفاقع ذات الفعل المباشر والآني والأسرع أكثر من الأدوات التعموية السابقة التي لها كان الطابع الإستراتيجي متعدد الطبقات والقشور والالتفافي، وهذا ما يحاول مثلاً الحقل الدبلوماسي الروسي- الصيني التركيز عليه بشكل أساس وتعريته. وهذا ما قصدناه سابقاً بأننا اليوم في مرحلة الخبر العاجل وعقلية الفضيحة وسلوكيات المخاصمة والافتراء الطفولية. وكل ذلك محمول على تعميم عقلية رثة سهّلت هذه الممارسة، مدعومة من أسلحة إعلامية عالية التركز والسرعة.

ضِيق المساحة بين البنيتين

هناك جديد نوعي مهم آخر (بل هو تمظهر آخر لما ذكرناه أعلاه) نابع من ضيق هوامش الممارسة التعموية لدى الأيديولوجيا الرسمية. إن ضيق مساحات النشاط البشري مادياً وتصاعد حدة المعاناة المادية والمعنوية، واشتداد حدة التناقضات في المجتمع، والطبيعة، يضيق أيضاً مساحات السياسة الرسمية، ويقصّر المراحل التي كانت تحتاجها الممارسة الرسمية السياسية والأيديولوجية لكي تكمل دورتها التعموية والتضليلية. ولهذا مثلاً هناك ارتفاع حدة الإنقلابات السياسية والعسكرية مؤخراً في دول الأطراف، وتفكك العملية السياسية التي تفعل فعلها في مراحل الثبات النسبي للبنية الاجتماعية في الغرب تحديداً. ومن ثم تعميم التطرّف في كل أشكاله والعدمية (بعد تعميم نهج المتعة القصوى في المرحلة السابقة على انغلاق الهامش). ولكن وعلى مستوى الوعي، وكأن الفكر صار في مرحلة انتظار معطلاً يختنق في اللحظة، فالمستقبل الوهمي لم يعد موجوداً، والحاضر مختنق ممارسياً إلى أبعد الحدود، وهذا ما يجعل من وسائل الهيمنة الجماهيرية في لهاث إلى القصف المركز والكثيف عليه من أجل الحدّ من حركته الممكنة. هذا يجعل من الوعي في احتكاك مباشر مع العمليات الواقعية للوجود الاجتماعي، أي في التعاطي مع جذرها. فلا طبقات انتقالية بينه وبينها. انكشفت في عريها أمامه، وانكشف هو (كوعي) نفسه أمام نفسه أيضاً. ألم يقل ماركس بأن الفكر يتثوّر عند الفئة التي ليس لديها ما تخسره؟ هذه هي حال فئات إجتماعية واسعة اليوم.
إن ضيق المساحة بين البنية الفوقية والتحتية، أي في التحامهما المباشر يرفع من حدة التوتر والطنين بينهما في ظل تعطّل أغلب مساحات الممارسة الرسمية على مستوى البنية الفوقية وتسارع متطلباتها في آن من الدولة إلى الإغراء الاجتماعي إلى التمويه الفكري. وهذا هو مجدداً مؤشر على الفرصة في توظيف هذه الطاقة من أجل الفعل التاريخي للتغيير. وهذا ما لا يزال ناقصاً على جبهة المواجهة العالمية بالشكل المطلوب. وكل ما سبق قوله ليس إلا القول المعروف نفسه بأن العمليات في تطوّرها التاريخي تصل إلى نهايتها المنطقية، وهي هنا تبلور البنية الاجتماعية في مستوياتها المختلفة في شكلها النظري بشكل مباشر بعد أن كانت مغطاة بالتفاصيل والتعقيد مما يجعل البنيتين في حالة احتكاك شديدة تسمح بالاختراقات الكبرى.