عن العقل الحيّ وضمانة المرحلة الإنتقالية: نموذج «العلم المفتوح»

عن العقل الحيّ وضمانة المرحلة الإنتقالية: نموذج «العلم المفتوح»

ذاك الذي يطاله فضاء التجريد كمن مَسَّه روحٌ أو جنّ، ولكن في التجريد تقبع ترنيمة التاريخ الملموس الواضحة. ومن هذه الترنيمات معادلة غرامشي الثاقبة حول المراحل الإنتقالية التي لم يولد فيها الجديد بعد، في حين أن القديم يموت، وفي ذاك الوقت تخرج الوحوش. هكذا هي المراحل الإنتقالية الكبرى في شروط عدم اليقين. عدم اليقين هذا قد يلمسه الأفراد في حدود حياتهم الخاصة المباشرة في مراحلها الإنتقالية المختلفة. ولكن من حسن حظ الترنيمة التاريخية التي نعيشها ببقاء عناصر موروثة من مرحلة الصعود السابقة والتي تمارس ثقلها الضامن على لجم الوحوش، في الحرب تحديداً، وفي الاقتصاد، وفي الثقافة والعلوم أيضاً. وهنا نعرض لمحة قد تكون الأقل بروزاً وأهمية، ولكنها دليل آخر على الترنيمة الحالية، هي قضية «العلم المفتوح».

في سياق القضية

مؤخراً، وحسب الدورة الحادية والأربعين للمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) المنعقد في باريس، في 9-24 تشرين الثاني، 2021، وضمن الحاجة للتصدي للتحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية، المعقدة والمترابطة، التي يواجهها الناس والكوكب كـ: الفقر والمشكلات الصحية وتحديات الحصول على التعليم، وتزايد أوجه عدم المساواة والتفاوت في الفرص، وتزايد فجوات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، واستنفاد الموارد الطبيعية ونضوبها، وفقدان التنوع البيولوجي، وتدهور الأراضي، وتغير المناخ، والكوارث الطبيعية والكوارث الناجمة عن الأنشطة البشرية، وتفاقم النزاعات، والأزمات الإنسانية، وإقراراً بضرورة العلوم والتكنولوجيا والابتكار للتصدي لهذه التحديات عن طريق توفير حلول لتحسين رفاهية البشر، والنهوض بالاستدامة البيئية، واحترام التنوع الحيوي والثقافي لكوكب الأرض، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة وتعزيز الديمقراطية والسلام، يعبر عن ذلك بالفرص والإمكانات التي يتيحها انتشار وسائل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتزايد الترابط والعالمي لتسريع وتيرة التقدم البشري وتعزيز مجتمعات المعرفة، وتنويهاً بأهمية تضييق فجوات العلوم والتكنولوجيا والابتكار والفجوة الرقمية القائمة بين وداخل البلدان والمناطق، قامت المنظمة بإصدار ما يسمى بوثيقة (توصية حول) العلم المفتوح.
وتتمحور الوثيقة حول إقرار المنظمة للجوانب التقنية والمالية والقانونية والتي من شأنها أن تعمل على «تعزيز التعاون الدولي بشأن العلم المفتوح سعياً من أوجه عدم المساواة الموجودة في ميادين العلوم والتكنولوجيا والابتكار وتسريع وتيرة التقدم نحو تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام ٢٠٣٠ وتحقيق أهداف التنمية المستدامة وما بعدها». الوثيقة منشورة على موقع المنظمة باللغات- حتى اللحظة- الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ولكن مسودة الوثيقة المقرّة نفسها توجد في عدة لغات أخرى من ضمنها العربية والصينية. وتأتي هذه الوثيقة كحصيلة أعمال عدة لقاءات وقرارات للمنظمة والأمم المتحدة بشكل عام، ومنها الإجتماع الدولي الحكومي للخبراء المنعقد في باريس، في أيار 2021، الذي أصدر مشروع مسودة التوصية النهائية، والتي منها نقتبس بأن الوثيقة جاءت: عملاً بـ«مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان... حول حقوق الشعوب الأصلية... ومهام الأونيسكو»، التي «تضم حفظ المعارف وزيادتها ونشرها عن طريق تشجيع التعاون بين الأمم في جميع فروع النشاط الفكري، ويشمل ذلك تبادل المطبوعات والمنشورات والأعمال الفنية والمواد العلمية وسائر المواد الإعلامية، وعن طريق إيجاد وسائل التعاون الدولي الملائمة لتمكين جميع الشعوب من الاطلاع على المطبوعات والمنشورات التي ينتجها كل شعب منها، ويستند إلى توصية اليونسكو الخاصة بالعلم والمشتغلين بالبحث العلمي لعام ٢٠١٧، التي اعتمدها المؤتمر العام لليونسكو، والتي تعترف بجملة أمور منها قيمة العلم الكبيرة بوصفه منفعة عامة، ّ من دورته التاسعة والثلاثين أيضاً بتوصية اليونسكو لعام ٢٠١٩ بشأن الموارد التعليمية المفتوحة واتفاقية اليونسكو العالمية لحقوق المؤلف العامة ويذكر بالإستراتيجية الخاصة بإسهام اليونسكو في تعزيز الانتفاع الحر بالمعلومات العلمية والبحث العلمي ١٩٧١، ويحيط علماً بميثاق اليونسكو بشأن صون التراث الرقمي اللذين اعتمدهما المؤتمر العام لليونسكو في دورتيه السادسة والثلاثين والثانية والثلاثين على التوالي، ويدرك أهمية الأطر القانونية الدولية القائمة، ولا سيما ما يتعلق منها بحقوق الملكية الفكرية، ومنها حقوق العلماء في إنتاجهم العلمي..»

في أهداف الوثيقة

ويمكن إيجاز غرض هذه التوصية في توفير الإطار دولي لممارسات وسياسات العلم المفتوح الذي يعترف بالضرورة بالاختلافات في التخصصات ومنظورات الإقليمية حول العلم المفتوح، والذي يراعي الحرية الأكاديمية والمصاعب أمام العلماء ولا سيما في البلدان النامية، والذي يعمل على الحد من الفجوات الرقمية والتكنولوجية والمعرفية بين وداخل البلدان. وتقترح الوثيقة مبادئ ومعايير مشتركة للعلم المفتوح على الصعيد الدولي، وتقدّم مجموعة من الإجراءات التي تفعّل العلم المفتوح بشكل عادل ومنصف للجميع على الصعيد الفردي والمؤسسي والوطني والإقليمي والدول. وبشكل عام تتمثل أهدافها ومجالات عمل التوصية بـ: إيجاد ونشر فهم مشترك للعلم المفتوح والمنافع والتحديات المقترنة به ومساراته المتنوعة، وتهيئة الظروف المؤاتية لوضع السياسات اللازمة له، والاستثمار في البنى الأساسية والخدمات الخاصة والموارد البشرية والتدريب والتعليم والدراية الرقمية وبناء القدرات اللازمة وتعزيز ثقافة العلم المفتوح وإيجاد حوافزه الملائمة، وتعزيز التعاون الدولي والتعاون مع الجهات المعنية المتعددة، ولغرض تقليص الفجوات الرقمية والتكنولوجية والمعرفية». ويتم تعريف العلم المفتوح بأنه مفهوم جامع يتضمن حركات وممارسات مختلفة هدفها إتاحة الاطلاع الحر على المعارف العلمية باللغات المختلفة والانتفاع بها واستعمالها للجميع، وزيادة التعاون العلمي وتشاطر المعلومات لصالح العلم والمجتمع، وتمكين الجهات الفاعلة غير المنتسبة إلى الأوساط العلمية التقليدية من المشاركة في عمليات إنتاج المعارف العلمية وتقييمها ونشرها. ويشمل العلم المفتوح جميع التخصصات العلمية وجوانب الممارسات العلمية، بما في ذلك العلوم الأساسية والتطبيقية، والعلوم الطبيعية والاجتماعية والعلوم الإنسانية، ويستند إلى الركائز الرئيسية التالية: المعارف العلمية المفتوحة، والبنى الأساسية العلمية المفتوحة، والاتصال في مجال العلوم، والمشاركة المفتوحة للجهات الفاعلة، والحوار المفتوح مع نظم المعرفة الأخرى.

العقل الحيّ

في الكلام أعلاه كلام تقدميّ ولا شك، في هذه اللحظة القاتمة، ولكن كيف وجد ذلك طريقه إلى الوثيقة؟! قبل إصدار الصيغة النهائية طُلب من الدول الأعضاء إرسال تعليقاتها قبل نهاية عام 2020. نشرت التعليقات على موقع المنظمة، وجاءت التعليقات من حوالي 40 دولة، أغلبها يقول بالقبول (والتطبيل) بالمشروع الأولي للوثيقة، وهي عبارة عن رسائل ومستندات لا تتعدى عدة أسطر وفي أحسنها صفحة واحدة لاقتراح بعض «التحسينات». أما التعليقات الأكبر (عدة صفحات) المتمايزة نسبياً فجاءت من: ألمانيا التي قدمت تعليقات منهجية ومفاهيمية لا تمس جوهر المسألة، أما فرنسا فقد شددت على ضرورة مواجهة الاحتكار في الميدان العلمي، والبرتغال (الأكثر جدية في النقد) اعتبرت أن الطرح طوباوي ولا يتلاقى مع القاعدة الاقتصادية المركزية الاحتكارية غير العادلة الحالية التي تحكم إنتاج العلوم وممارسيها، ولهذا فقد لا يخرج تطبيقه للنور. أما كوبا فقد أكدت على الفجوة الكبرى بين الدول من حيث الوصول إلى التقنية الحديثة ومصادر المعلومات، بناء على عالم غير عادل. أما المسودة الروسية (حوالي 30 صفحة) كانت الأهم من حيث الجوهر عبر تنبيهها إلى أن مشروع العلم المفتوح يتلاقى مع مسائل ضرب السيادة والأمن الوطنيين تحت ستار التشاركية، ونبهت إلى علاقة العلم المباشرة بالاقتصاد السياسي خصوصاً التنمية والتنافس الدولي ضمن سياق عالم اليوم، خصوصاً في ظل التمايز بين ميادين العلوم والبحث والتي لا يمكن اعتبارها كلها في ذات المستوى من إمكانية التشارك، وشددت على منع استباحة الفرد والجماعات تحت حجة المعلومات المفتوحة في ظل احتكار الميديا وتركزها لصالح كتل عالمية. واعتبر الموقف الروسي أن الطرح بشكل عام هو سقوط في الشعبوية من خلال تمييع القضايا العلمية المطروحة وضرب تمايزها في ظل ثقافة عامة قد لا تكون جاهزة لتقييم القضية المطروحة في ظل تأثيرات سياسية حادة. ومن الناحية المعرفية اعتبرت أن الفروقات في طبيعة الإنتاج لكل دولة (خاصة وجود الإنتاج العلمي من عدمه) له تأثير على قدرة هذه الدول على إعطاء موقف موضوعي من أية قضية علمية. ومن الملاحظات هي أن حرية الرأي العلمية قد تؤسس إلى تفكك وتشظية وضرب موضوعية العلم نفسه عبر السماح بتساوي كل الآراء والنظرات المعرفية ما قد يؤسس لتعظيم الفكر الأسطوري والسحري واللا-علمي، ومن ثم هناك تأسيس للنزعات الانفصالية عبر دعم حرية التصرف بالتاريخ الخاص لأية مجموعة أقلّية بمعزل عن أي شرط ضابط آخر.
إن العلم في ضرورته أن يكون تقدمياً أي تطبيقياً مرتبطاً بالواقع وحركته أو لا يكون، وفي كونه اليوم عنصراً أساسياً في الصراع من نظام دمار الحياة على الأرض المتمثّل بالإمبريالية، يفرض عليه أن يحمل موقفاً تقدمياً حيّاً نسبياً في المجتمعات التي للعلم فيها دور ووزن ما (هنا أبرزنا ألمانيا، فرنسا، البرتغال، كوبا)، وهذا ما يجعل للجبهة العالمية التقدمية اليوم قوى اجتماعية من الباحثين والعلماء صارت أعظم بأشواط من القرن السابق. ولكن يبقى الموقف الروسي الأبرز كالعادة إلى هذا الحد أو ذاك، أولاً لاعتماده على عقل اقتصاد سياسي مادي وتاريخي وفي كونها منخرطة في الحركة التاريخية بشكل فاعل، فضلاً عن تراثه السوفياتي العلمي العظيم الحاضر. وللعلاقة بين العلم والسياسة في المجابهة العالمية مكانة خاصة اليوم لكون وزن العمل الذهني اليوم أعلى من المراحل السابقة كلّها.

روابط المراجع:
UNESCO Recommendation on Open Science
https://en.unesco.org/science-sustainable-future/open-science/recommendation
المسودة النهائية بالانكليزية
https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000379949.locale=en
النسخة العربية من المسودة
https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000378841_ara
التعليقات على المسودة الأولية للوثيقة
https://en.unesco.org/science-sustainable-future/open-science/recommendation#collapseOne

معلومات إضافية

العدد رقم:
1052