«فولبوني» لبن جونسون: المجتمع إذ يهبط إلى أسفل السافلين
في أيامه كان يعتبر أكبر كاتب إنكليزي على الإطلاق، وهي صفة لم تمنح لمعاصره ومواطنه وغريمه أحياناً، ويليام شكسبير إلا بعد رحيل الاثنين بزمن طويل. حين كان على قيد الحياة، كانت سمعة بن جونسون تطغى على سمعة شكسبير، حتى وإن كان قام تعاون خلاق بينهما أحياناً.
ولكن، بعد ذلك برز شكسبير وتضاءلت أهمية جونسون. واليوم إذ يعرف الناس جميعاً، معظم أعمال صاحب «هاملت» و «عطيل» و «ماكبث»، بالكاد يذكر أحد لبن جونسون مسرحية غير رائعته «فولبوني». والناس إذا ذكروا بن جونسون، إنما يكون موضوعهم حياة الرجل المدهشة ومغامراته الأخاذة ومزاجه الصدامي، أكثر مما يكون أعماله. ومع هذا، في وقت كان الشكسبيريون لا يزالون عاجزين عن فرض أعمال رائدهم بوصفها «أعمالاً أدبية» جديرة بهذا الاسم، وكان المسرحيون في شكل عام غير قادرين على فرض النصوص المسرحية قطعاً أدبية، لم يتوانَ بن جونسون عن إصدار مجلد يضم مسرحياته وقد حملت اسم «أعمال بنيامين جونسون»، ومن المؤكد أن مثل هذا العنوان لكتاب، يعتبر تكريماً ما بعده تكريم في ذلك الزمن، تكريماً لم يسبق أن حصل عليه أي مسرحي آخر منذ العصور الإغريقية على الأقل. ولكن، هنا علينا ألا ننسى أن بن جونسون، في ذلك الحين بالذات، نال شهادتي دكتوراه - فخريتين على أية حال - من الجامعتين المتنافستين: أوكسفورد وكامبردج، في الوقت نفسه. وهذا كله كان خلال عقد واحد من حياة الرجل، بلغ خلاله المجد، بعد أن سبقته عقود من التعب والشعور بالمهانة، وستليه عقود من الفقر. في عقد المجد الذي توازى مع حكم جيمس الثاني ملكاً على إنكلترا، منذ 1603، كتب بن جونسون أهم أعماله وكُرّم، كما خفّت في الوقت نفسه حدة تحديه زملاءه ومبارزاته إياهم ومشاكساته لهم.
ولم يكن غريباً على بن جونسون بالتالي أن يستهل ذلك العقد، تقريباً، بكتابة «فولبوني»، مسرحيته التي لا تزال حية وتقدّم إلى اليوم، والتي تخلى فيها عن محاولاته النيل من زملائه وأصدقائه، ليغوص في سخرية من المجتمع في شكل عام، ناعياً على طبقة معينة من الناس، أخلاقها وتكالبها على الأمور المادية، وكان ذلك شيئاً جديداً في ذلك الحين. أو بالأحرى استعادة لأجواء مسرح روماني قديم كان جعل من انتقاد الجشع والتكالب والنفاق الاجتماعي موضوعاً رئيساً له، واستباقاً لما قام به رائد هذا النوع الكبير، في المسرح الفرنسي: موليير.
هذا البعد هو، بالتأكيد، ما يعطي «فولبوني» طابعها المعاصر. فبن جونسون كتبها، في وقت كان بدأ يخرج من بوتقة حلقات الممثلين والمثقفين وصراعاتها - التي يشير إليها شكسبير بكل وضوح في بعض حوارات «هاملت» - ليدخل حياة المجتمع. فماذا وجد؟ وجد طبقات بدأت تصعد في المجتمع، حب المال هوسها الأول، والنفاق والرياء وعدم الرغبة في العمل منهاج حياتها. ولما لم يكن من شأن عقل كعقل بن جونسون أن يتسامح مع صورة المجتمع الفاسد تلك، وجه إليه سهام نقده اللاذع في «فولبوني»... ونجح في ذلك إلى حد كبير.
«فولبوني» - وتعني «الثعلب» - هو الاسم الذي يحمله بطل المسرحية، علماً أن بن جونسون اختار هنا أن يعطي الشخصيات الرئيسية كلها في المسرحية أسماء حيوانات (لاتينية) تحدد منذ البداية أخلاقها ودورها في التركيبة الاجتماعية والدرامية للعمل، كما سنرى. و «فولبوني» هنا، ثري من البندقية شديد البخل وفائق الهيام بالمال والذهب. وهو ذات يوم، لكي يزيد من ثروته ويوقع أصدقاءه وأقرباءه في حبائل أخلاقياته الناقصة، يتفق مع تابعه موسكا («ذبابة») على القيام بلعبة ماكرة، على رغم أنه يعاني مرضاً خطيراً، وأنه على وشك الرحيل. ولما لم يكن لديه أولاد، يطلب من تابعه أن ينشر إشاعات حول أسماء الذين قد يورثهم أمواله بعد موته... هكذا، يبدأ معارفه بالتحلق حوله، مغدقين عليه الهدايا والعطايا، وكل منهم يأمل في أن يكون له من ثروة الراحل نصيب. ومن بين أشرس هؤلاء الأصدقاء يطالعنا «فولتوري»، و «كارباتشيو» و «كورفينو» (وكلها في الأصل كما أشرنا أسماء حيوانات). وهؤلاء، لشدة طمعهم لا يكتفون بأن يقدموا الهدايا ويظهروا الود للمحتضر، بل إن كلاً منهم - وبناء على نصائح «موسكا» الطفيلي الشاطر - يقوم بأكثر من ذلك: «كارباتشيو» يحرم ولده من ثروته في وصيته، ليجعل «فولبوني» وريثه. وكورفينو يحاول أن يقدم شرف زوجته لفولبوني النهم، طمعاً بالثروة. لكن «بوناريو»، ابن «كارباتشيو»، ينقذ «تشيليا» زوجة الآخر من براثن «فولبوني»، ما يؤدي إلى جرح هذا الأخير. وحين يساق «بوناريو» و «تشيليا» أمام المحقق، يقرر والد الأول وزوج الثانية، أنهما المذنبان وأن «فولبوني» لا ذنب له! و «فولبوني»، بعد ذلك، إمعاناً في تحقير الثلاثي الطماع، يعلن هذه المرة أن «موسكا» إنما هو وريثه الوحيد، وغايته أن يراقب ما سيكون عليه تصرف الآخرين إزاء هذا الواقع الجديد. لكن ما لم يكن «فولبوني» قد حسب حسابه، إنما هو موقف «موسكا». فهذا الأخير يزعم أن معلمه لن يعود إلى الحياة هذه المرة، إذ زعم أنه مات بالفعل واختبأ وراء ستار، يقرر أن يحتفظ بالميراث لنفسه، عن حق وحقيق. وهنا لا يعود في إمكان «فولبوني» أن يواصل لعبته أكثر، وقد رأى أنها بدأت تنقلب عليه، فيعترف أمام المحكمة بكل شيء. فتعاقب المحكمة الجميع، و... تنتصر الفضيلة في النهاية.
واضح أن هذه النهاية، ليست هي ما كان يهم بن جونسون هنا. ما يهمه كان تلك الصورة التي يقدمها عن مصير غياب الأخلاق والفضيلة في عالم بدأت المادة تطغى عليه تماماً، لا سيما لدى تلك الطبقة التي أجاد «فولبوني» تماماً التعبير عنها من خلال أسماء ممثليها، الغراب، والذبابة والصقر والثعلب وما إلى ذلك. والأهم من هذا أن جونسون، في خبطة عبقرية تجلت في إحكام البناء الدرامي للعمل، عرف كيف يرسم سيكولوجية كل شخصية من الشخصيات، وكيف يعطي كل شخصية من الشفافية ما يجعلها تنم عما هو موجود فعلاً في المجتمع.
في ذلك الحين، كان مجتمع المدن البورجوازي استكمل بنيانه، بعد قرن من الصعود الذي كانت لا تزال تسيطر فيه عوامل النبل والفضيلة، وهكذا كان الجديد الذي أتى به جونسون، من دون أن يكون الأول في رسمه - بل كان الأفضل حتى ذلك الحين - الجديد، كان بدء التعاطي مع أخلاقيات ذلك المجتمع. وحتى لئن كان بن جونسون اختار البندقية مسرحاً لأحداث عمله، من الواضح أن ما كان يقصده، إنما هو المجتمع اللندني تحديداً.
عندما كتب بن جونسون «فولبوني» كان، كما أشرنا، من القوة بحيث يمكنه أن يوجه سهام نقده إلى ذلك المجتمع. في ذلك الحين كان كاتبنا في الرابعة والثلاثين، وكانت بدأت مرحلة الهدوء في حياته. قبل ذلك كان عاش حياة تجوال وصراع عنيف. وكان عرف منذ صباه بالمشاكسة. وهو بدأ حياته العملية كاتباً وممثلاً يعكس على المسرح ما في شخصيته نفسها من هزء وسلاطة لسان ومقدرة على فضح عيوب الآخرين. وكان أول عمل شارك في كتابته مسرحية «جزيرة الكلاب» التهكمية - مفقودة حالياً - التي سُجن إثر تمثيلها. وحين أطلق سراحه انضم إلى ممثلي فرقة «الأدميرال»، وكتب للفرقة مسرحيات عدة، كما كتب لمسارح أخرى، وشارك ويليام شكسبير لفترة في الكتابة والتمثيل. وخلال «حرب المسارح» راح يكتب بكثرة ويبارز. ولقد حدث له مرة أن قتل ممثلاً خلال مبارزة، وأودع السجن مرة أخرى. لكنه منذ اعتلاء جيمس الأول العرش (1603) هدأ وإن لم تهدأ حدة نقده. وراح يكتب بوفرة، هزليات ومآسي تاريخية ومسرحيات أقنعة. وعاش سنوات مجد، أيقظه منها موت الملك راعيه، والظروف الجديدة التي طرأت (الطاعون وإغلاق المسارح)، وراح وضعه يتدهور، مالياً واجتماعياً، حتى مات في لندن في عام 1637، تاركاً وراءه مسرحيات عدة غير مكتملة، وأهلاً عاجزين عن دفع تكاليف جنازته.
المصدر: الحياة