المقاومة وثقافة الشعار الفلسطيني 2 من 2
برهنت الأحداث المتلاحقة، بعد الحراك السياسي المقاوم أثناء انتفاضة الأقصى، على قدرة الشعب الفلسطيني على خلق عناصر تعبير متوافقة مع تضحيات وصمود المقاومة، وعناصر التعبير تلك لم يكبحها الخلاف الأيديولوجي للفصائل الفلسطينية والإشكاليات في تحديد أولويات الصراع وجدلية المعركة.
بالتالي كان لكل فصيل إدارته لأسلوب الصراع من خلال المفاهيم الإيديولوجية، التي انعكست على الشعار المطروح في المظاهرات أو المنقوش على الجدران، فكان هناك اتجاهيا رئيسيان عبرت عنهما أدبيات التيار الإسلامي الفلسطيني، والقيادة الوطنية أو التيار العلماني الفلسطيني بفصائله وتعدديته السياسية، وانعكس هذا التنوع والتوافق الفلسطيني حول قيادة موحدة لانتفاضة الأقصى ليس فقط على الشعار بل على المواقف السياسية والاجتماعية، من ناحية الاتفاق الشمولي حول الإيمان المطلق بنهج الكفاح المسلح كخيار حقيقي ووحيد لاستعادة الحقوق، فظهر الشعار يمثل الحالة الفكرية و العقائدية لكل فصيل حسب توجهه الفكري والعقائدي، فكان الشعار الإسلامي يركز على جذب واستغلال البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية، مستعيناً بمكانة المسجد الأقصى في حياة المسلمين، ومؤكداً في المظاهرات على شعارات تصف انتفاضة الأقصى كـ«ثورة المساجد» واستخدام صيحات التكبير، على اعتبار أن المعركة هي معركة إسلامية خالصة، وأنهم عنوانها ووقود شعلتها، كالشعار الذي دونه رجال حماس على جدران قرية عناتا في الضفة الغربية «الانتفاضة حرب عقائدية بين الحق والباطل» «حماس – عناتا».
بينما لم تركز شعارات باقي الفصائل ذات التوجه العلماني أو اليساري، على إعطاء وصف محدد للانتفاضة، وأكدت شعارات فتح أنها أول من حمل الرصاص والحجارة ضد الاحتلال، ورسمت خارطة الصراع، وهذا ما سجله الشعار الذي خطه رجال فتح على جدران قرية بيت لقيا في الضفة الغربية «فتح... أول رصاصة وأول حجر».
وأكدت فصائل الثورة الفلسطينية في شعاراتها، على أن الانتفاضة لن تكون إلا صرخة مدوية في وجه كل الباعة والخونة على امتداد فلسطين، وأن الحرص يجب أن يكون على انجازات الانتفاضة الفلسطينية ومكاسبها، واستمرار التصعيد، فكان كل فصيل يعاهد الشعب من خلال الشعارات التي كانت تطلق في المظاهرات، على استمراره في الانتفاضة وفي الطريق الطويل لتحرير فلسطين، وبدأ السباق على تدوين تلك المفاهيم على الجدران، وصدحت بها حناجر المنتفضين في الشوارع والميادين، فمثلاً «حماس تقول.. انتفاضة على طول».. وسارعت فتح لإطلاق شعار «الانتفاضة مستمرة فموتوا غيظاً»، وأطلقت التنظيمات اليسارية شعارها الشهير «الوفاء لدماء الشهداء بتصعيد الانتفاضة حتى تجسيد استقلالنا الوطني».
إن شعار «لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة» والذي أطلقته القيادة الموحدة للانتفاضة، وأصبح عنواناً للمرحلة النضالية في التاريخ الفلسطيني، والهدف منه هو عدم استجابة الفصائل الفلسطينية، للضغوط السياسية الرامية لوقف الانتفاضة، بعد أن ارتبط تاريخياً بثورة /1936/، والطريقة التي أوقف الثوار يومها الإضراب، بعد أن استجابوا لنداءات القيادات السياسية التي اعتمدت على «حسن نوايا حكومة الاحتلال البريطاني».
بعد تعاظم الشعور لدى القيادة الموحدة للانتفاضة، بأنها تحولت إلى ورقة سياسية بيد المفاوض الفلسطيني، الذي ظن أنه سيستخدمها لمكاسب سياسية مرحلية، بعد اختصار الانتفاضة المباركة بالحجر والغضب الشعبي، خرجت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بشعارها الشهير «الحجر ليس بديلاً عن البندقية»، وأن الانتفاضة هي خطوة على طريق التحرير، فكان موقف حركة الجهاد الإسلامي المدون على جدران غزة «أن الانتفاضة ليست إجابة سياسية لخط المساومة التصالحية مع العدو أو ورقة ضغط للقبول بمشاريع الاستسلام والتفاوض».
وأبرز ملامح الشعارات المرفوعة في المظاهرات أو المدونة على الجدران، التركيز الدائم على رفع المعنويات وتعبئة الجمهور وشحذ الهمم، والصمود والتعالي على الجراح، وركزت على تحدي إجراءات الاحتلال التعسفية، وأن مصير كل الإجراءات التي يتخذها العدو، هو الفشل أمام إرادة الشعب الفلسطيني، ولم ينس المقاومون الدعوة للرد وبقوة على تلك الإجراءات والجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، فرفعت شعارات في قرية دير غسان موقعة باسم حماس وأهمها «سنمضي رغم بحر الدم رغم القارب الدامي»، وحاولت فتح تذكير العدو بأبي جهاد الوزير، وأنها رغم الألم بفقده لكنها استمرت، فسجلت على الجدران شعارها «من شعب الوزير إلى السفاح رابين، الأطول نفساً هو المنتصر»، واختارت الجبهة الشعبية من أدبياتها ما يناسب المرحلة حين كتبت «سنمد جسومنا جسوراً هيا يا رفاق اعبروا»، و«كنا وما زلنا رمزاً للتحدي والصمود».
ولم تنس الفصائل الفلسطينية جميعها التذكير بحتمية النصر، فالفجر آت وبعد الليل نهار، وأن عنف الاحتلال لن يوقف الثورة، كما ركزت على القوة المعنوية وكسر الحاجز النفسي وتعزيز الإرادة وأعلنت الشعارات رفض أصحابها للذل والركوع واستهانتهم بالموت وحرصهم على الشهادة بل حذرهم من الموت الطبيعي، ورسخت الشعارات خط المقاومة واختارت ما يعمق الإيمان به، ورفدته بتعبئة شعبية وثقافية وإعلامية تناهض الاستكانة بمختلف صيغها وأشكالها، ليكن مشروع المقاومة هو الحل القادم من رحم المستقبل.