التوتر في العقل العلمي ودوره في تقرير مصير عقل المرحلة
على الرغم من الطفرة في مختلف المجالات، يشهد العلم اليوم توتراً داخلياً حاداً تعود أسبابه إلى العوامل الاقتصادية الاجتماعية السياسية من جهة، والتي تفعل فعلها في تقرير اتجاهات العلم وتشكّل العقل العلمي نفسه، ومن جهة أخرى، إلى حاجات التطور الموضوعي للعلم المعني وارتباطاً بخصائص موضوع هذا العلم أو ذاك، إي إلى تراكم المعطيات والحقائق المادية التي تلقي بوزنها على اتجاهات العلم.
والاصطدام بين هذين الاتجاهين يخلق توتراً في العلم وعقله، تتحدد مصائرها بشكل وثيق بمصير الحركة الاقتصادية السياسية للعالم ككل، ومصير توازن القوى فيه والنقلات النوعية التي قد تحصل.
العوامل الفاعلة في اتجاهات العلم
يأخذ موضوع تأثير النيوليبرالية في العقود الماضية على العقل والبحث العلمي أهمية لدى الباحثين في نقد وفلسفة العلوم وتاريخها، وهذا الاتجاه يسلك طريقه مؤخراً بعد أن خبت لعدة عقود وتحديداً ضمن فترة تقدم الرأسمالية المرحلي، وتراجع الجدل الأيديولوجي والعلمي الذي كان سائداً في فترة حضور الكتلة الاشتراكية.
اعتبر أن العقل النيوليبرالي وقواعد انتظام المجتمع والإنتاج في المرحلة النيوليبرالية له دور أساس في التأثير على العلم وتشكيل شروطه واتجاهاته وتحديداً على الباحثين وميولهم نفسها؛ فالعلم في العقود الماضية لم يفقد فقط أداته الأقوى ألا وهي الفلسفة المادية التاريخية، بل اجتاحته تأثيرات السوق بداية من تشكيل مواضيع البحث نفسها والارتباط الوثيق بمنظومة التمويل والدعاية والإعلان التي لم يعد العلم قادراً على الاستمرار دونها.
وهذا ما أثر أيضاً على الانتظام المؤسسي داخل كل وحدة بحثية أو جامعة أو معهد علمي، ما خلق أخلاقاً وعقلية تجارية لدى العاملين في المجال، مدعوماً بالحاجة إلى الإنتاج السريع والكمي للبحوث، في ظل تعظيم منافسة ضمن سوق العلوم كانعكاس لقيم السوق النيوليبرالية وثقافتها.
كان لذلك أثر كبير في تشكيل المنهجية والنظرية في العلوم كتراجع مساحة التفكير النظري الإبداعي، وسيادة التفكير الكمي على حساب التفكير النوعي، واتجاه الميول البحثية نحو قضايا أقرب إلى سطح الظواهر من جوهرها، وسيادة ما سميّ بتفكير التاجر على حساب تفكير الباحث، وهذا ما طبع المنتج العلمي بشكل عام.
بالإضافة إلى تفريغ العلم من الفكر الفلسفي، وهذا ما شدد عليه العالم علي الشوك في كتابه: تأملات في الفيزياء الحديثة؛ في حين تسود التجريبية والانتقائية والتفكيكية بشكل كبير حسب أغلب من درس ما يسمى بأزمة العلم في العقود الماضية.
في تمايز الاتجاهات عالمياً
هذا التأثير النيوليبرالي، على الرغم من هيمنته على ميدان العوام عالمياً، كون اتجاهات التنافس العلمي مرتبطة بمواضيع تشترك فيها جميع الدول ربطاً بتشاركها السوق التجارية العالمية نفسها لناحية السلع وتطويرها، وصولاً إلى قضايا الطاقة.
ولكن ليس هذا المشهد مغلقاً على ذاته، بل تقرره الهوامش التي تفرضها تناقضات النظام الإمبريالي على القوى التي تتقدم المشهد من أجل عالم آخر.
فالتحديات الاقتصادية والسياسية العسكرية والبيئية والاجتماعية والغذائية والصحية والوطنية تفرض على القوى الحية في العالم، وتفرض دوراً متقدماً للعلم أبعد من قواعد السوق التي تشترك فيها كل الدول كما ذكرنا.
ولكن هناك تلك الهوامش التي تتوسع مع كل تصاعد في حدة التناقض بين اتجاهات التطور التاريخية؛ فالبحوث الفيزيائية والكيميائية والجوفضائية والاتصالاتية مع كل مع يعنيه ذلك من قطاع تكنولوجي ذكي، تحتل في روسيا مثلاً موقعاً متقدماً لخاصية تطور روسيا التاريخي وموقعها ضمن توازن القوى العالمي وتركتها التاريخية؛ ما خلق هوامش ابتكارية علمية هي فعلاً خروقات في الميدان العلمي.
الصين قامت بخروقاتها العلمية الخاصة من قضايا الزراعة والتعديلات الجينية وصولاً إلى قضايا المركبات الكيميائية وتخليقها ارتبطا بقضايا علاج التلوث أو حتى تقنيات الاتصال أو الإنتاج العسكري الحديث ومركباته الكيميائية المطلوبة من هيكل الطائرات وصولاً إلى تقنيات التسلل، دون أن ننسى طبعاً الدور المركزي لعلوم الذكاء الصناعي.
فالمراكز البحثية في روسيا مرتبطة بشكل وثيق بقطاع الجيش، بعيداً عن تلوث حاجات السوق تمويلاً وتنافساً، ما يخلق استقراراً داخلياً للمجتمع العلمي والعقل البحثي، والأهم مرجعية وهدفية تتخطى العلم نحو أهداف اجتماعية كبرى ضمنية فاعلة في تشكيل دوافع العلماء والباحثين أنفسهم.
ليس هذا بعيداً عن الصين فيما خص البحوث المرتبطة بالقطاع العسكري، وكذلك في مجمل قطاع البحث، الذي يرتبط بشكل وثيق بتمويل الدولة المركزي وضخها المواد اللازمة لأن العلم في الصين جزء من الخطة التنموية الاقتصادية للدولة، ويلعب دوراً طليعياً وقاطرة أساسية للنمو؛ وهذا أيضاً يخلق اتجاهاً بعيداً عن أمراض السوق، دون أن يعني ذلك غياب لوثاتها نتيجة التداخل الكبير في الصين بين الاتجاهات التاريخية لهذا البلد وتمايزها ضمن كل قطاع وكل معهد بحثي حتى.
هذه الأمثلة عن الهوامش التاريخية الخاصة تمد العلم بطاقته المادية اللازمة من أجل القيام بنقله نوعية ولكن يبدو أن العائق الأكبر الذي يقف اليوم أمام ذروة هذا النقلات من الذكاء الصناعي إلى علوم الإنسان التي هي مقررة في بناء مجتمع ما بعد الاستهلاك، كلها تحتاج الى منهجية ومعرفة واعية وعلنية لا يمكن أن تكون مقطوعة عن تراث المادية التاريخية وبنائها الفلسفي ككل.
هذه الهوية المعرفية والمنهجية والنظرية هي رد طبيعي على التراكم الضخم للحقائق والمهام ضمن العلم، والمجتمع حكما، والتي يتطلب تعميمها وتجريدها خلفية فلسفية محددة، ضمن كل ميدان علمي بحد ذاته؛ وهذا التوتر في العلم سيتعاظم شيئاً فشيئاً حتى تستعاد المقولات الفلسفية الأساسية في إطار العلم، وهو ما يرتبط بالنهاية بالهوية الفكرية والثقافية للدولة المعنية، ولكن والأهم سيكون لهذا التوتر نفسه دور أساسي في الدفع نحو تشكيل هذه الهوية والضغط باتجاهات محددة هي بالضرورة مادية تاريخية؛ فالواقع المادي يفرض بقوة نحو إعادة تشكيل العقل العلمي كما كان طوال تاريخ تطور العقل العلمي عبر التاريخ انطلاقاً من حاجات الواقع المادي نفسه.
ولأن العلم يتلاقى بشكل وثيق مع السياسة والاقتصاد في هذه المرحلة، ليس فقط بالمعنى الموضوعي، بل بالمعنى المعلن في برامج الدول المتقدمة المشهد، سيكون له تأثير مباشر على العقل السياسي والاجتماعي في تثبيت نقلة هي عودة أرقى نحو الفكر المادي التاريخي وكل تراثه المنهجي والنظري والمعرفي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1043