متلازمات الشخصية الإنسانية في عصر الأزمة الشاملة
من المعلوم أن النظرة إلى العالم تتضمن فيها محددات العلاقة مع هذا العالم، أي هي التي ترسم معالم الممارسة. فالفلسفة في العلم مثلاً تتمثل في نهاية المطاف بالمنهجية التي يعبر فيها العلم عن نفسه في ميدان الممارسة والتعامل مع ظواهر الواقع. المنهجية في العلم إذاً هي شخصيّة العلم. بينما على المستوى الاجتماعي-الفردي فإن المنهجية تكتسي بملامح الشخصية الفردية التي تشكل إطار التقاء نظرة الفرد إلى العالم مع ظواهر هذا العالم، وتشكّل ممارسته. فالشخصية الإنسانية هي المنهجية بلبوس فضفاض. فكيف أثّرت الثقافة في العقود الماضية على الشخصية الإنسانية وصراعاتها؟
الشخصية ومعادلتها
يقول عالم النفس- عصبيات- السوفياتي ألسكندر لوريا في خاتمة كتابه «عقل شخص ذاكريّ» (دراسة حالة عن شخص له ذاكرة واسعة و«لا نهائية» وهو من ضمن عدة حالات نادرة عرفها العالم ممّن يتمتعون بهذه القدرة) أن قدرات الذاكرة لدى هذا الشخص قد أثرت على مجمل شخصيته وعلاقته بالعالم. وحتى لا نبعتد عن موضوعنا، يقول لوريا إنه على علم النفس في المستقبل أن يقدر على تحديد قوانين تشكّل بناء الشخصية إلى حد من الدقة والملموسية كما يتم اليوم تحديد قوانين تركيب المواد الكيميائية، عبر القدرة على تحديد ما سماه «متلازمات الشخصية» (Personality Syndromes) التي تمثّل تركيبات محددة من عوارض الشخصية لها بناؤها الخاص كالمتلازمات التي تظهر في ميادين أخرى صحية جسدية أو عقلية، وهذه المتلازمات تظهر لدى اختلال التوازن في تطور الشخصية. ويعتبر لوريا أن هذه المهمة هي من المهام الحساسة التي يمكن عبرها دراسة الملامح الفردية انطلاقاً من البناء الكلّي للشخصية، ولا يمكن تحديد عدد العقود من السنوات التي سيصل فيها علم النفس إلى تلك القدرة.
الفلسفة بين العلم والممارسة الفردية
إذا كانت المنهجية في العلم هي التعبير الممارسي عن التيار الفلسفي الذي يوجه هذا العلم أو ذاك، أي إن النظرة إلى العالم تتمظر بالنهاية على مستوى المنهجية، فإن النظرة إلى العالم في ميدان الممارسة الاجتماعية- الفردية بشكل عام للغالبية المطلقة من البشر الذين لا يقومون بممارسة علمية واعية، فإنها تتمظهر من خلال سلوكياتهم وعلاقتهم بظواهر الواقع. إنها تتمظهر في الشخصية الفردية. وكلما اختلفت النظرة إلى العالم، تختلف معها بالضرورة المنهجية المتبعة في العلاقة مع ظواهر الواقع، إن كان العلم أو في الممارسة «العفوية» للغالبية، فتتغير بالضرورة ملامح شخصيتهم. لهذا يمكن القول إن كل تيار فلسفي قد يجد التعبير عنه في متلازمات شخصية محددة، كما يمكن في العام أن نجد العلم التجريبي أو الوضعي أو الإنتقائي...
الليبرالية وتيارها الفلسفي
في العقود الماضية سادت الليبرالية وهيمنت على ميدان الوعي. وكلّ مجتمع تأثّر فيها حسب خصوصيته الثقافية والإجتماعية. والليبرالية لها نظرة محددة إلى العالم كانت في تحول دائم حسب تطور الأزمة في المنظومة الرأسمالية ككل. وبداية من فكرة أن الفرد يملك قدرة التطور بمعزل عن الظروف، وله وحده قدرة التأثير على مصيره، وعلى تحقيق إرضاء حاجته، وبأن السعادة هي في الاستهلاك المفرط، والتطرف في هذا الإرضاء عبر الكسب الأكبر، في مقابل تجاهل والإبتعاد عن كل ما ينغص، وتحديداً الخوض في قضايا الواقع والسياسة، فإن هكذا نظرة رسمت ملامح الشخصية الفردية وسلوكيات الأشخاص التي يمكن ملاحظتها بكل وضوح في مختلف مظاهر الحياة اليومية معبّرة عن تيار فلسفة الإشباع الأقصى، لها ملامح الفلسفة الوضعية التي تعبر عن نفسها في العلم بالارتكاز إلى المعطى الحسي والدراسة الكمّية للظواهر في تجاهل للنظرية والفكر السببي، وكأن الوضعية تبريرية في جوهرها، هذا في مرحلة الصعود المؤقت للرأسمالية في العقود الماضية التي امتاز فيها الواقع بكل «المعطيات» التي تشير إلى «نجاح الرأسمالية». ولكن هكذا نظرة متعالية وفوقية وتضخمية وعند بداية الأزمة وانغلاق أفق الليبرالية وضيق هوامشها، اختلت تلك النظرة «المتفائلة» إلى العالم، وبدأت النظرة المعلنة إلى العالم بالتراجع لصالح تفكيكية أعلى، انطلاقاً من الظرف والزمان والمكان، معبّرة عن تجريبية واضحة، ومع كل تقدم للأزمة غابت كلياً أية نظرة معلنة نحو العالم، وتقشفية وتعففية أعلى على حساب اللذة والاستهلاك، ومن ثم سادت التشكيكية، وها هي العدمية اليوم تسيطر. فالفكر السائد يعدّل نظرته إلى العالم والتي يروجها في كل وسائله الإعلامية والعلمية والفنية حسب الواقع وأزمته، فالفكر الرسمي اليوم يعلن عن عجزه عن فهم والتعامل مع الواقع.
وكان لهذا التطور في النظرة إلى العالم تأثير على السلوك الفردي والشخصية، فكل مرحلة كانت لها «شخصيتها» الفردية المهيمنة دون أن ننفي طبعاً التداخل بين عدة اتجاهات في تشكيل كل شخصية، انطلاقاً من التعقيد في الظرف الاجتماعي الفردي وغناه وتحولاته الزمنية التاريخية حسب خصوصية كل فرد وكل بنية اجتماعية. ولهذا فإن الأزمة اليوم هي في شخصية مفككة، عاجزة، متخبطة، وسوداوية تشكيكية، وفي أقصى مستواها تعتنق العدمية مذهباً، وقد تنتقل سريعاً بين التعفف والإشباع المتضخم المتاح للحاجات، في الابتعاد عن اعتناق نظرة موحدة إلى العالم بسبب عدم فهمها له حسب التيار السائد. وهذا في العلم كما في الممارسة الفردية.
تركة الرأسمالية: موت مادي وروحي
هذا ما تتركه الرأسمالية من أثر على المجتمع البشري، في أقصى أزمتها. وأية حماية وتوحيد وتوازن للشخصية يمر حصراً عبر مسار تقدم النقيض فكرياً وثقافياً. من هنا أهمية المعركة الأيديولوجية التي تشكل ولا شك النظرة البديلة إلى العالم، في قوانينه الواقعية وآفاق تطوره الممكنة- الضرورية. فالتيار المادي- التاريخي يرسم ملامح شخصية لها من التوازن والجدية والالتزام والهدوء والواقعية أبعد مدى، ربطاً بالقدرة على الممارسة البديلة بالطبع، وحتى حين تقدم هذا البديل عالمياً فالبشرية تسير في متلازمات مضطربة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1040