«السهوب» لتشيكوف: سيّد المسرح الاجتماعي بدأ ملتصقاً بالطبيعة
إبراهيم العريس إبراهيم العريس

«السهوب» لتشيكوف: سيّد المسرح الاجتماعي بدأ ملتصقاً بالطبيعة

«لا تبدو رواية «السهوب» هذه، بالنسبة إليّ، شبيهة بنص روائي سردي، بل هي أقرب إلى أن تكون موسوعة جغرافية طوبوغرافية حقيقية».

هذا الكلام الذي يتحدث بهذه البساطة التي تبدو أشبه بالنقد الموجّه الى أدبية الرواية المذكورة، والذي يتناول عن العمل الروائي الأول ذي الأهمية اللافتة الذي كتبه الروسي تشيكوف وهو بعد في الثامنة والعشرين من عمره، لم يكتبه ناقد أراد الانتقاص من قيمة هذا العمل منكراً عليه أن يكون رواية، بل كتبه تشيكوف نفسه صاحب «السهوب» الذي كان - في عام 1888 وعبر هذا النص - يريد أن يجرّب حظه في كتابة الرواية بعدما كان حقق نجاحاً ما في كتابة المسرحية. ولم يكن تشيكوف يرى بأساً في قول مثل هذا الكلام عن «روايته» طالما أن النص في حقيقته لم يتضمن أصلاً أي بنية روائية درامية، بل كان يسجل مجموعة من الانطباعات والمشاهدات في سرد وصفي لا يعرف القارئ أين يبدأ أو أين ينتهي، من دون ان يعني هذا بالطبع ان من شأننا أن نصنف «السهوب» في خانة الأدب الروائي «الحديث» الذي سيجعل من هذا الأسلوب عماد وجوده ومبرره طوال العقود التالية، ولا سيما خلال القرن العشرين.

فـ «السهوب»، قبل كل شيء آخر، نصّ يقع في منطقة تكاد تكون وسطى بين أدب الرحلات والأدب الروائي، على غرار ما بات يطلق عليه منذ تبنّته السينما، وصف «فيلم الطريق» أو «أدب الطريق» حيث يهتم الكاتب بوصف ما يشاهده بطله - الذي يكون غالباً ما يكون أناه الآخر- أكثر مما يهتم بأن يروي أحداثاً درامية أو تشابكات تعيشها الشخصية، حتى وإن كانت الغاية في نهاية الأمر، تبيان التأثير الذي تتركه «الرحلة» على من يقوم بها، عاطفياً ومزاجياً... وأحياناً درامياً.

وفي هذا المجال، كانت رواية «السهوب» ذات ريادة. أما بطل الرواية الذي نجدنا مرافقينه في تجواله منذ أولى صفحات الرواية، فهو الفتى ايغوروشكا، الذي يقطع الفيافي والسهوب الروسية في طريقه من بلدته الريفية النائية إلى المدينة حيث سيكون عليه أن يلتحق بالمدرسة. أما الرحلة الطويلة نسبياً فيقوم بها الفتى على ظهر عربة تجرّها الدواب وهي محمّلة ببالات القطن، متنقلة من موقع إلى آخر عبر سهوب متلاصقة خاوية من العمران، والحال ان ما يوصف لنا في صفحات الرواية فهو مشاهدات هذا الفتى وانطباعاته، وما يكون من شأنه ان يتذكره مما خلف وراءه ناهيك بأفكار كثيرة تراود رأسه حول ما ينتظره في المكان الذي يقصده. وهذا كله يختلط في مزيج مدهش قد لا يكون قريباً من العمل الروائي كما اسلفنا، لكنه وبكل تأكيد يحمل الى القارئ لذة القراءة ناهيك بلذة التحامه بالشخصية الرئيسة التي سيعتاد عليها بالتدريج ويتفاعل مع ما سيبدو منها من تفاعل مع الطبيعة...

والحال ان تشيكوف يتحدث عن نصه هذا قائلاً: «إن كل فصل من فصول هذا النص يشكل في حد ذاته نصاً يكاد يكون مستقلاً... أما ما يجمع بين الفصول كلها فإنه نوع من رابط قرابة يبدو شبيهاً بذلك الذي يجمع بين أصابع الكف الخمس»، بل أكثر من هذا: إن كل صفحة من صفحات هذا العمل تبدو مستقلة تحمل معانيها وصورها وآفاقها الخاصة بها. وهذا ما يجعل العمل ككل يبدو، ودائماً وفق تعبير تشيكوف نفسه «مثل مجموعة من اللوحات المترابطة في ما بينها». أما عنصر الربط الأساسي هنا فمزدوج: فهناك من ناحية الفتى الذي يقوم بالرحلة ويشاهد القارئ كل ما يروي له بعينيه البريئتين الفضوليتين، وهناك من ناحية ثانية السهوب نفسها التي تشكل عمق العمل وجوهر وجوده، وتؤمّن له وحدته السردية. والحقيقة ان السهوب تبدو، وعلى الأقل كما تصفها لنا لغة تشيكوف البديعة والجزلة، حية أكثر مما يخيل إلينا بكثير، بل أكثر حيوية مما يخيل إلى ايغوروشكا نفسه. و «هذا ما يجعل السهوب لا الفتى، البطل الحقيقي»، لهذا النص الذي تمتزج فيه الشاعرية بالواقعية في مزيج أقل ما يمكن أن يقال عنه اليوم إنه أتى مزيجاً انطباعياً يرتبط بقرابة ما مع الرسم الانطباعي الفرنسي نفسه.

ولعل القيمة الأساسية لـ «السهوب» تكمن في أن الكاتب تمكن، حقاً، من أن يشحن ذلك الامتداد الخالي، امتداد السهوب، بحضور بشري حقيقي، طوال الرحلة التي يعبر فيها الفتى تلك السهوب التي من الواضح أنها تفتنه. هذا ما جعل النقاد ودارسي حياة تشيكوف يرون في هذا العمل أنسنة مدهشة ومفاجئة لأرض بادية من الصعب العثور على أي أفق للحياة الإنسانية الحقيقية فيها، إن لم تمر عليها أقلام تشيكوف ونظرة طفله الفتي. إن المشهد الطبيعي هنا مشهد حي، لكنه حزين، مشهد يخيّل الينا في كل لحظة ان الطبيعة تتألم فيه وتشكو همومها وآلامها طوال الكثير من اللحظات، ثم يحدث لها في حين أن تضحك أو تبكي وقد اتسمت فجأة بأبعاد إنسانية تلوح للقارئ وكأنها تخاطب الفتى في أعمق أعماقه، بأحسن ما يمكن أي إنسان أن يخاطبه.

وهكذا يبدو النص كله مبنياً في نهاية الأمر على سلسلة متتابعة من اللوحات والمشاهد، وذلك في غياب أي حبكة حقيقية. «الحبكة» الأساسية هنا هي ذلك الحوار الذي يقوم بين الفتى - ممثل الجنس البشري في كل براءته الأولى - وبين الطبيعة في فطريتها وبدائيتها واحتفالها بالحياة، تلك الحياة التي تبدو غائصة فيها حتى من قبل أن تلقي عليها نظرات الفتى المندهشة المتفرسة. ومن هنا، فإن كل ما يعلن هنا وكل ما يرسم بقلم الكاتب، يلوح لنا من خلال نظرة الفتى كما من خلال حواره الدائم مع المشاهد التي تتراءى أمام عينيه. ولكن من المؤكد في الوقت نفسه، أن الطبيعة لم تقفز إلى قلب الحياة بمجرد أن تفرست فيها عينا الفتى، بل هي حيّة من قبل، ملوّنة من قبل، صاخبة بالموسيقى من قبل، وما دور نظرة الفتى، وبالتالي نظرة الكاتب، إلا دور الموقظ لتلك الحياة الكامنة.

والحال أن هذا البعد هو الذي جعل الكاتب يبدو، صفحة بعد صفحة، وكأنه يمر على مراحل رحلته وعلى مشاهد الطبيعة فيها مرور من يرغب في كل لحظة في أن يطلع من أعماق تلك الطبيعة بجواهرها الحية، ومن هنا اعتبر هذا البعد كله عنصراً شاعرياً أخاذاً يساهم مساهمة حقيقية في إضاءة الطبيعة بنور جديد: نور كاشف ليس هو ما يبعث الحياة في الطبيعة، بل وظيفته أن يكشف وجود تلك الحياة، ومن هنا قيل إن ثمة - عند تلك المرحلة من حياة تشيكوف - قرابة عميقة بينه وبين أفكار جان - جاك روسو المتحدثة عن عبادة الطبيعة والعودة إليها.

وطبعاً كان هذا كله في الوقت الذي كان فيه انطوان بافلوفيتش تشيكوف (1860 - 1904) لا يزال في بداياته ولم تحوله الأحداث الاجتماعية والسياسية بعد، إلى كاتب اجتماعي للمسرح، وضع بعض أبرز المسرحيات التي مهدت لحداثة القرن العشرين مثل «الخال فانيا» و «القبرة» و «الأخوات الثلاث» وغيرها من أعمال خلدت وخلدت اسم كاتبها معها. ففي ذلك الحين كان تشيكوف لا يزال شاعري الكتابة «هبّي» التوجه ناحية الطبيعة، شديد التأثر بأفكار الشاعرية الرومنطيقية، قارئاً نهماً لروسو. أما «السهوب»، فإنها مثّلت لحظة انعطافية في توجهه الأدبي، ذلك أنها كانت أول محاولة قام بها لتأليف رواية - إذا ما وضعنا جانباً بعض محاولاته البسيطة الأولى، ومنها روايته «صيد مأسوي» التي تسبق «السهوب» زمنياً، لكن هذه الأخيرة تبدو متفوقة عليها. والحال أننا لن يفوتنا أن نجد في أعمال مسرحية لاحقة لتشيكوف آثار العلاقة التي أقامها مع الطبيعة في ذلك العمل البسيط والهادئ «السهوب».

 

المصدر: الحياة