عالم صوفي
«إنّ من لا يعرف كيف يتعلم دروس ثلاثة الآلاف عام الأخيرة يظل في العتمة»
بمقولة لغوته يبدأ النرويجي جوستان غاردر – أستاذ في الفلسفة وتاريخ الفكر – روايته الرائعة عالم صوفي - والتي تلخص تاريخ الفلسفة بدايةً بفلاسفة الطبيعة الذين سبقوا سقراط مروراً باسبينوزا وديكارت وانتهاءً بماركس وفرويد - بإيجاز محكم وحسٍ موضوعي في سرد الأفكار والآراء على اختلافها وتناقضها.
تظهر عبقرية الكاتب في انتقائه للطريقة التي لجأ إليها لعرض الأفكار إذ نسج من وعي مخيّلته فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تدعى صوفي حيث يراسلها أحدهم - أستاذ الفلسفة المجهول - بداية بمصنف يحوي عادة عدة أسئلة فلسفية من النمط التالي :
- تُرى هل يوجد مبدأ أول ينشأ عنه كل شيء ..؟
- أيمكن للماء أن يتحول إلى خمر ..؟
- كيف يمكن للماء والتراب أن يتحولا إلى ضفدعة ؟
والتي قد لا تخلو أحياناً من استفزازية كامنة قد تبدو للوهلة الأولى إن لم نتعمق في معانيها المعرفية وإسقاطاتها التاريخية، من ثم مصنّف آخر يناقش الأسئلة المطروحة بعلمية وموضوعية وبشيءٍ من إطالة.
تدور الرواية حول أسرة في النرويج، «ألبرتو كناغ» ربّ الأسرة بعيدٌ عنها اسمه يعمل ضابط في قوات الأمم المتحدة في لبنان، أما ابنته فاسمها «هيلديه»، تبدأ الرواية عندما يبدأ الأب بإرسال سلسلة متتابعة من الرسائل لابنته، من خلال وسيط هو فتاة اسمها «صوفي»، دون أن تدرك هذه الأخيرة ما يحدث حولها والمفارقة أنها لا تعرف «هيلديه» حتى، فتشرع بقراءة رسائل الأب بدلاً من الابنة إلى أن يسألها مرة: من أنت يا صوفي..؟ ... ثم يوضح لها لاحقاً أن عليها أن تخرج من نمطية الروتين اليومي والشروع في التفكير فيما هو أسمى.
على هذه الحال تستمر الرواية إلى أن يحل محل الأب شخص باسم «ألبرتو كنوكس»، وتحل معه الأحاديث والنقاشات بدلاً من رسائل الأب يرسلها والتي كانت تُتَم في بيته أو في أمكنة أخرى كالكنيسة.
إن أهم شيءٍ يمكن ملاحظته أثناء قراءة الرواية، إنها تخرج فعلياً من القوالب الروائية المتعارف عليها، سواء في الرسائل التي يرسلها الأب أم في النقاشات مع ألبرتو، فتتحول الرواية إلى سرد للأفكار التي طرحها الفلاسفة وآرائهم تجاه أهم قضايا الوجود ومناقشتها ونقدها.
أدبياً، لا توجد ثنائية العقدة والحل على مستوى الرواية فقد لجأ «غاردر» إلى تقسيم روايته إلى خمسة وثلاثين فصلاً، حيث وضع لكل فصل على حدة عقدة خاصة وحل، وأثناء تحليله يصل لحل العقدة بشكلٍ شبه كامل، ولكنه يترك شيئاً ليستعمل الجزء المتبقي كبداية لعقدة الفصل التالي، مما يكسب الرواية ترابطاً منطقياً، على الرغم من إن الفصول أحياناً لا تمت لبعضها بأي صفة من حيث المضمون ففي كل فصل يتم طرح اسم أحد الفلاسفة ومناقشة تساؤلاته وأفكاره التي لا علاقة لها في أغلب الأحيان مع الفيلسوف المذكور قبله.
تجد الإشارة إلى إن «عالم صوفي» لم تكن أولى إطلالات «غاردر» الأدبية ذائعة الصيت، فله عدة أعمال أدبية أخرى تستحق الاحترام، ومن بينها «سر الصبر»، التي حققت له شهرة على مستوى النرويج وحازت على جائزة النقد الكبرى، بينما قفزت «عالم صوفي» به إلى المستوى العالمي،وتُرجمت إلى ما لا يقل عن ثماني وثلاثين لغة وبُيع منها في ألمانيا وحدها أكثر من مليون نسخة.