«نواعم» شوستاكوفتش.. الموسيقار الموسوعة
يُمكن اعتبار الموسيقار الروسي ديميتري شوستاكوفتش آخر أساطين الموسيقى الكلاسيكية العالمية، فرَغم إنه عاشَ القرن العشرين بكل تحولاته التي طالت المَدارس الموسيقية المُختلفة، ورَغم مُحاولته مُواكبة هذه التحَوّلات أحياناً، إلا أنه ترك بَعد وفاته عام 1975 إرثاً موسيقيا ثميناً ورَصيناً مِن الأعمال الموسيقية، مِنها 15 سمفونية و15 رباعية وترية و2 كونشرتو للبيانو والعديد من المتتابعات وسويتات الباليه، كما وضع موسيقى تصويرية لكثير مِن اﻷفلام الروائية وأفلام الكارتون، تحَوّل بَعضها الى أعمال موسيقية مُنفصِلة بشكل متتابعات موسيقية أو سويت، مِن بينها موسيقى فيلم "عَشرة أيام ھزت العالم" الذي يُوثق لأحداث أكتوبر1917 التي ألف لها شوستاكوفتش سمفونيتين، الثانية "إلى أكتوبر" والثانية عشرة "إلى سنة 1917".
مِمّا لا شَك فيه إن سمفونيات شوستاكوفتش هي مِن الاعمال المُهمّة في عالم الموسيقى العالمية، لكنها بكل تأكيد ليسَت أروع ما تركه لهذا العالم، فلِنواعِمه القِصار مَذاق آخر يَجعلها تتميّز وتتفوق على الطِوال مِن مُؤلفاته. وقد تشَكل سمفونياته الـ 15 العمود الفقري لأعماله، إلا أن نواعِمه هي التي تعَبّر عَن ألقه وعَبقريته. فكونشرتاته ومُتتابعاته وسويتاته ضَمّت في طيّاتها وبَين ثنايا حَرَكاتها قطع موسيقية نادِرة ودُرَر فنية ثمينة أسميتها بالنواعِم لقِصَرها وخِفّتها وبَساطتها، ولكونها تُظهِر جانباً مُختلفاً مِن شخصيته الفنية والإنسانية، وعالماً لا يَمُت بصلة لعالم سمفونياته، عالم لم يَنل حَظه مِن التركيز والاهتمام الذي نالته سمفونياته، عالم يَحتاج الى سَـبر أغواره واستكشاف كنوزه والتـركيز عليها قطعة قطعة ليتسَنى فهمَها والاستمتاع بها.
في نواعِمه نَجد تجَليات رغبة بالجُموح والانطلاق بَعيداً عَن قيود يَبدوا أنه كان يَشعر بها تكبّل روحه وإبداعِه قبل يَديه ولِسانه، تجَليات يَبدو بأنه لم يَكن يَجرؤ على الإعلان والتعبير عَنها بوضوح بل يَعمد لإخفائها ضِمن سِلسلة مِن الحَركات المُتعاقبة والمُتداخلة التي كانت تتضَمّنها سويتاته ومُتتابعاته، والتي كانت مُرونة مَواضيعها المُختلفة والمُتنوعة بين التأريخ والدراما وأفلام الكارتون تسمَح له بإطلاق مَكبوت إبداعه مِن الأنغام والألحان السَعيدة والراقِصة والرومانسية بإفراط أحياناً.
لعَل مِن أبرَز وأروع نواعِم شوستاكوفتش التي على المَرء الاستماع اليها والاستمتاع بها نواعِمه الراقِصة مِثل فالس سويت الجاز رقم 2، ورقصة غالوب سويت الباليه رقم 1، ومقاطع سويت شيريموشكي، وفالس سويت الجبال الذهبية، وفالس رقصة الدُمى. أو نواعِمه الدرامية كمَقطوعة الصَيد مِن سويت هاملت، والحركة الثانية مِن رباعيته رقم 8، والحَركة الأولى مِن سمفونيتيه الخامسة والثامنة، والحَركة الأولى مِن كونشرتو البيانو رقم 2 .
أو نواعِمه الرومانسية مِثل رومانس سويت غودفلاي المُفعَم بالعاطِفة، والحَركة الثانية الرقيقة مِن سويت سقوط برلين، والحَركة الثانية مِن كونشرتو البيانو رقم 2 المَليئة بالشَجن، ولولباي البيانو. وغيرها مِن الأعمال التي أبدَعَتها أنامل شوستاكوفتش ومُخيّلته الخصبة، كزهور مُتنوعة العُطور والأشكال والألوان.
ليسَ غريباً أن يُعتبر شوستاكوفتش أحد أهم موسيقيي القرن العشرين لأنه كان موسوعياً في موسيقاه، فمِن جهة تأثر أسلوبه بأسلافه مِن الموسيقيين الروس كجايكوفسكي ومَجموعة الخمسة، وتظهِر بَعض سمفونياته تأثره بأسلوب الموسيقار النمساوي بروكنر، لذا كان يُعتبر مِن رموز المدرسة الرومانتيكية المُتأخرة. ومِن جهة أخرى أظهر تأثراً بالموسيقى الغربية بدا واضِحاً في سويت الجاز الأول والثاني. كما اتجه في بَعض مؤلفاته الى الحَداثة واللاتقليدية التي تَظهَر في لا مَقامية ولا تناغم ألحانها، والتي امتازت باحتواء تركيبتها اللحنيّة على أنغام غير مُتجانسة وغريبة ومُتقطعة، أشّرَت لمَيله في مَرحلة ما مِن مَسيرته الفنية الى بعض المدارس الموسيقية المُفرطة بحَداثويتها، التي سادَت وبادَت بسُرعة قياسية خلال النصف الأول مِن القرن العشرين، دون أن تترك أثراً يُذكر على الساحة الموسيقية كسابقاتها التي امتلكت رصانة وأصالة رُبما لم تمتلكها هذه المدارس.
لكن الجَميل في شوستاكوفتش هو أنه لم يتأثر كلياً بهذه المَدارس، وقد بدا هذا الأمر واضِحاً في مُتتابعاته وكونشيرتو البيانو 2 وسويتاته التي حَفلت بحَركات ومَقاطع رائعة تجمع بين جمالية اللحن وخفته ورصانة الأسلوب وقوته. بالتالي ولفَهم روحية مؤلفات شوستاكوفتش ومَنهجه بالتأليف يحتاج المَرء الى سماع مؤلفاته لمَرّات عَديدة بإصغاء عميق وتأني، ليَستطيع التمييز بين بنائها الدرامي مِن جهة وما تختزنه مِن عاطفة مِن جهة أخرى، ثم محاولة الرَبط وإيجاد التناغم بَينها للخروج بصورة واضِحة عَن أعمال تمتاز بخصوصية واضِحة في طريقة بنائها الهارموني.
رَغم الظروف المُتقلبة وغير المُستقِرة التي عاشَها، ورَغم الصَرامة التي كانت تبدو عليه، فقد كان شوستا كما كان يُسمّيه المُقرّبون مَرحاً وصاحِب مُزحة، وإحدى طرائِفه كانت السَبب في إبداعه لواحِدة مِن أشهَر مؤلفاته وأكثرها شَعبية وهي (Tea for two) التي أعاد توزيعها عَن أغنية لفِنسنت يومانس بَعد ان تحدّاه صديقه نيكولاي بإعادة توزيعها أوركسترالياً خلال ساعة، فما كان مِنه سوى أن جَلس وأمسَك بورقة وقلم وقام بتوزيعها خلال 45 دقيقة رَغم أنه لم يَستمع إليها سوى مَرة واحدة كانت كافية لأن يُحولها الى تحفة، وقد عُزفت لأول مَرة عام 1928 باسم (تاهيتي ترول) كجُزء مِن سويته الشَهير (العصر الذهبي) الذي ضَمّ بالإضافة اليها رقصة (البولكا) الشَهيرة.
قبل وفاته بفترة وحينما بدأ يَتجه الى العُزلة كتب شوستاكوفتش رسالة الى أحَد أصدقائه قال فيها "لا أستطيع العَيش دون أن أؤلف موسيقى"، لذلك تبقى الطريقة المُثلى للتعَرّف على شوستاكوفتش كما يقول كاتب سيرته سولمون فولكوف هي بالاستماع لموسيقاه وليسَ بقراءة سيرة حياته.
المصدر: ميدل ايست أونلاين