لو أن «أهل المثل» لم يقولوا هذا كله!

لو أن «أهل المثل» لم يقولوا هذا كله!

يتغنى المجتمع السوري عموماً، كالكثير من المجتمعات الأخرى، برصيده الكبير من الحكم والأمثال الشعبية. إذ يرى في تلك الأمثال عصارة حكمة الأجداد وفطنتهم وبلاغتهم في قول أكثر الأفكار قيمة في أقل عدد من الكلمات. ولهذا تربت أجيال وأجيال من السوريين الشباب وهم يسمعون آباءهم يرددون عبارة: «الله يرحم أهل المثل ما تركوا شي ما قالوه»، وكانوا يقصدون بالطبع: أن الأمثال في موضوعاتها تُغطي الكثير من المواقف اليومية والدروس الأخلاقية. وفي الحقيقة الجملة السابقة مُحقة جداً؛ فأهل المثل فعلاً قالوا كل شيء دون مواربة أو تجميل، وهذا ليس بالضرورة أمراً حسناً. فهذه الحكم الشعبية تحوي إلى جانب المواعظ التي تسخر من الطمع والحسد والفضولية، أفكاراً رجعية أو عنصرية. كما أن الأمثال تمتلئ أحياناً بالسخرية من ذوي الإعاقة والشتائم والبذاءة، وتروّج في أحيانٍ أخرى لأفكار وقيم سلبية، كالانتهازية والشك بالناس، إضافةً إلى كونها مُثقلة حتى التُخمة بأفكار نمطية حول النساء.

«الغاية تبرر الوسيلة» بلغة الشارع

قد يذهل المرء بعد التنقيب في الحكم والأمثال الشعبية، من كم المقولات التي تَحضُّ على المُراءاة ومجاراة التيار والتزلّف للآخرين من أجل الحصول على المكاسب أو حماية المصالح. ومن أشد هذه الأمثال فقاعةً مقولة: «يا معاوز الكلب قلو صبحك بالخير يا سيدي»، وعبارة: «إلي بيتزوج إمي بقولو عمي». وهناك في المقابل أمثال تحضُّ على مجاراة الوضع السائد، والسير مع التيار خوفاً من الخسارة، ومن الأمثلة على ذلك عبارة: «إذا كان بدك تستريح شو ما شفت قول منيح»، وعبارة: «ألف قولة جبان ولا قولة الله يرحمو».
إذ تُرَوّج هذه العبارات صراحة للقيمة القائلة بعدم وجوب إظهار ما تضمر كما في عبارة: «الإيد إلي ما بتقدر عليها بوسها وإدعي عليها بالكسر». فهذه إذاً دعوات مُلحة لإخفاء القناعات الحقيقية، وتجاهل سلبيات الآخرين إذا كان هؤلاء يقفون في صفك، مثل عبارة: «الكلب إلى بيعوي معك أحسن من الكلب إلي بيعوي عليك».

فوقية فجّة

من جهة أخرى، نلمس في عبارات ومقولات أخرى قيماً طبقية تُعبّر بوضوح عن الصراع بين العقلية الإقطاعية والبرجوازية الصغيرة، الذي يأخذ أحياناً شكل صراع بين أبناء الريف وأبناء المدينة. فهذه الأمثال تتحدث عن أن ممارسات معينة قد تليق بشريحة اجتماعية محددة، ولا تليق بشريحة أخرى. تسخر هذه الأمثال أيضاً من «ابن الريف» الذي يحاول التشبه بأبناء المدن وتقليدهم، مثل عبارة: «الفلاح إذا تدمشق مثل الكلب إذا تعمشق» أو عبارة: «راح الفلاح على المدينة ما استحلى غير الدبس بطحينة». نرى بوضوح أمثلة تسخر من الناس التي انقلبت حظوظهم، وحصلوا على بعض المال بعد أن كانوا فقراء، كعبارة: «الله بيعطي الكعك للي مالو أسنان». تُكمل هذه الأمثال على ذات المنوال، فنسمع عبارات مثل: «برغوت قال لبقّة يضرب الشرشوح إذا ترقّى»، و«لابق للشوحة مرجوحة ولأبو بريص قبقاب». إلى جانب العبارات التي تؤكد على مكانات الناس وموقعهم الاجتماعي الذي يؤهلهم أو لا يؤهلهم لأمر ما، كعبارة: «جاي من البريّة وبدو ياخد الأولية».

إياك والثقة بالناس!

أحياناً ما تعبّر الأمثال الشعبية عن قدر غير مفهّوم من التوجّس والظن سوءاً بالناس، فتكثر العبارات التي تتحدث عن أن المصالح تحرّك العلاقات بين الناس، وبالتالي فالناس يحبونك ويجتمعون حولك حينما تمتلك المال وينفضّون من حولك حينما يسوء وضعك وتصبح فقيراً. هناك عبارات تُشبّه الناس الآخرين بالأفاعي وتعزز توجّس الناس وعدم وجوب الثقة بالآخرين كعبارة: «مطرّح إلي بتأمن خاف». وهناك عبارات أخرى تتحدث عن زوال الناس الشرفاء وبقاء الخسيسين كعبارة «راح الناس وبقي النسناس».

صورة المرأة في المثل الشعبي

تشكل الأمثال الشعبية بيئة خصبة للتنميط ووضع النساء في قوالب مسبقة جاهزة، فكثيراً ما تصوّر تلك العبارات النساء كعبء يثقل كاهل عائلاتهن وكمصدر للمشكلات والهم ووجع الراس، كما تسخر بشراسة من النساء غير الجميلات وتعيرهن بمظهرهن كعبارة: «شو بتعمل الماشطة بالوجه العكر». تكون النساء في الأمثال الشعبية نقّاقات، وسطحيّات. فيما يخصص جزء كبير من تلك العبارات للصراع الأزلي بين الكنة والحماية. وفي أحيان أخرى تبدو المرأة أشبه بغرض يتم تداوله كما يظهر في عبارة: «لو كانت الشركة بَركة كانوا كل اتنين اتزوجوا مرا».

تعيير الناس بنقائصهم

جاءت الأمثال الشعبية من زمنٍ كان فيه طبيعياً وربما عادياً تعيير الناس بنقائصهم وصولاً إلى السخرية الفجة والقاسية من ذوي الحاجات الخاصة والإعاقات. فقد يصعب على الناس تصديق أن مجتمعاتنا تداولت عبارة قاسية ومليئة بالكراهية، مثل: «إن شفت الأعمى دبّوا مانك أرحم من ربو»، كما لو أنها رأت في هذه العبارة درساً أخلاقياً يجب نقله للأجيال الجديدة. هناك بالطبع أطنان من العبارات المُخصصة أيضاً للسخرية من القرعان والعور. نذكر منها: «طرشة عالباب بتتسمع»، و«أفكح وبيلعب بالكورة» و«الأعور بين العميان ملك» و«شو ما طبخت العمشه جوزها بيتعشى».

المثل الشعبي لغة الشارع

هدف الاستعراض السابق للقول: إن التراث ليس منزّهاً وبرّاقاً دائماً كما يظن البعض، فهو في المحصلة ابن بيئته ونتاج التشكيلة الاقتصادية التي ولدته، ولذلك مثلاً نستطيع أن نتوقّع بأن الكثير من تلك العبارات تم تداولها في الأسوق خلال المعاملات التجارية والمالية للناس، أو في البيوت المغلقة التي قبعت فيها النساء. ولهذا، لا يجب التخلي مطلقاً عن النظرية النقدية للتراث، أو التغنّي بالجانب المشرق منه، وترك الوجه المظلم قيد التداول بصورة غير رسمية بين الناس، لينتقل من جيل إلى آخر وينغرس في اللاشعور الجمعي.

كي يمضي المجتمع قُدماً، لا بد أحياناً من الاعتراف بأن التراث أيضاً قد يكون عنصرياً وفوقياً وداعياً إلى الجبن والمُهادنة والحفاظ على المصالح بأي ثمن كان؛ فهو في المحصلة وثيقة صادقة عن المجتمع بجوانب حياته المضيئة والمظلمة. التراث وثيقة يجب على الناس الرجوع إليها دوماً لتقييم الشوط الذي قطعوه في تجاوز قيم رجعية معينة، وتصحيح المسار للعودة إلى قيم إيجابية كانوا بدأوا بنسيانها والتخلي عنها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1009
آخر تعديل على الإثنين, 15 آذار/مارس 2021 10:20