رشيد معتوق طبيب في مَيْسَلُون

رشيد معتوق طبيب في مَيْسَلُون

نزولاً من قرية داعل في جِبال قضاء البترون شمال لبنان، يُقابِلُك وادي العِصيّ المعروف بهذا الإسم، وهو يُعرف أيضاً بِبُستان العِصيّ. وهناك اسم آخر له هو بستان العاصي، ويعرفه بعض أهله بوادي العُصاة. الوادي- السّهل حسب الروايات، هو منطقة سكنها قبل التأريخ الميلاديّ مجموعة من قراصنة السّاحل الذين دحرهم الرومان بسبب هجماتهم على السّفن، فلجأوا إلى الداخل قليلاً، وقاموا بالعصيان هناك، فكان اسم الوادي على اسم فعلهم ذاك، هذا الوادي المحميّ من قبل الطبيعة الجبلية القاسية الفاصلة مع الساحل. ولا بأس من تحوير الاسم قليلاً إلى عِصيّ، ففِعل «العصيان» ما لبث أن صار من ملامح وَرَثَة تلك المنطقة، على الإقطاع، وعلى الطبيعة، ومن ثم على المستعمر الغربي.

نزولاً من قرية داعل قُلنا، يطالعُك السّهل الذي كان قبلُ وادياً، ويعبر فيه نهرٌ تم لجم جموحه! ولهذا السّهل قصته هو الآخر، هي قصة لجم النّهر إياه. هي قصة «العصيان» الموروث، ولكن هذه المرة في تطويع الطبيعة الجارفة نفسها التي كانت سابقاً حصن حماية العصاة.
هذا السّاحل الممتد قبالة مرتفعات تنورين، وفي خلفية المشهد جبل المَكمِل مكلَّلاً بالثلوج على قمته التي تعتبر الأعلى في بلاد الشام، القرنة السوداء، على ارتفاع 3093 متراً عن سطح البحر.

وعلى جانب السّهل من جهة الشَّمال نصلُ قريةً تكاد تكون عادية للوهلة الأولى. لديها من التاريخ والتُّراث الواضح عبر الأديرة القديمة المنتشرة في أرجائها. وعلى مدخلها نقرأ مباشرة لافتة ترحيبية مكتوب عليها: «كفرحلدا، مسقط رأس الدكتور رشيد معتوق».
يمكن القول بداية: إن الدكتور رشيد معتوق اليوم ليس معروفاً في الوسط السياسي والثقافي، إلّا لدى القلة القليلة، وهذا له دلالته العميقة، إن كان في ضياع الذاكرة الوطنية عامّة، أو في تثبيت حدود سايكس- بيكو لدى العقل الجمعيّ.

من هو رشيد معتوق هذا؟!

حتى لا نطيل السَّرد، ولكي نقدّم موضوعنا بشكل مباشر، رشيد معتوق هو الطبيب الأممي عضو مجلس السِّلم العالمي، ابن قريبة كفرحلدا، والذي يُعرف همساً بأنه «شيوعيّ»، قاتل إلى جانب يوسف العظمة في معركة ميسلون ضدّ الاستعمار الفرنسي، وجُرح في المعركة، إلى جانب مجموعة من المتطوّعين الثُّوار من قرى البترون، كدوما وكفور العربي وكفرحلدا. وهو حسب ما نَقل إلى رفاقه بعد المعركة، أنه لم يستطع إنقاذ الشهيد العظمة!
ولأن موضوعنا تم «اكتشافه» حديثاً، أي نسبة للجيل الحاليّ، سيتطلّب عدة مواد لتَفِيه حقّه، خصوصاً أن اللجنة المكلفة بإحياء تراث الدكتور رشيد معتوق، التي أمدّتنا بالمعلومات والوثائق، لا زالت تقوم بالبحث عن مصادر معلومات جديدة، إن كان عبر من عايشوه، أو عبر من نُقِل إليه شيءٌ عن لسانه. فلماذا هذا السعي المستمِرّ حول شخصه؟ بكل بساطة، يبدو أن حياة الرجل كانت غنية لدرجة تحتاج إلى إحاطة واسعة بكل تفاصيل محطّاتها. تلك الحياة التي لم يكتب عنها لحد ما نعلم إلّا كتاب واحد لا يفي الغنى الذي يُروى على ألسنة من عايشوه (مع أن كتاباً آخر يبدو أنه قيد الإنجاز). ولهذا ستكون هذه المادة مدخلاً عاماً عنه وعن مسيرته.

بانوراما عامّة

ولد رشيد معتوق في شباط العام 1894 في قرية كفرحلدا (قضاء البترون)، لعائلة ميسورة، والداه الياس ووالدته حكّوم نقولا. ولديه شقيق واحد هو جرجس. عمل أهله في الولايات المتحدة، وعادوا إلى لبنان. درس الطب في الجامعتين اليسوعية والأمريكية، وتخرج في أواسط العقد الثاني من القرن العشرين. وسافر إلى النمسا لينهي تخصصه في الجراحة العامة في جامعة فيينا، وعاد إلى لبنان مع نهاية الوجود العثماني، وبداية الاستعمار الفرنسي للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى.

خلال المرحلة العثمانية، تجنّد معتوق إجبارياً كضابط في الجيش العثماني، وعمل في مناطق مختلفة منها: سورية (الحالية). خلال فترة تجنيده ساهم في لجم الممارسات العثمانية بحق الأهالي، وحماية المئات من الإعدام، وساهم متى استطاع في تهريب الحبوب والمواد بين المناطق.
ومن أهم تلك المحطات، هي مشاركته مع مجموعة من المتطوعين معه في معركة ميسلون إلى جانب يوسف العظمة ورفاقه. ومع أن المدوَّن عن ذلك قليل إلّا ما تم تناقله على ألسنة رفاقه، فإن معتوق كما قال هو نفسه حاول إنقاذ العظمة، ولكنه ما لبث أن فارق الحياة. وانسحب معتوق من المعركة بعد انتهائها، الذي كان قد طلب من يوسف العظمة وقتها الانتباه إلى عدم تكافؤ القوات. فكان رد العظمة المعروف بأنه لن يرضى بأن يدخل الفرنسي دون مقاومة حتى لو مات الجميع. سرد معتوق تفاصيل المعركة وعدد القوات وأنواع الأسلحة (وهي ما يتم تجميعه في الكتاب قيد الإنجاز).

نشاطه الطبي الإجتماعي

نتيجة لنشاطه ضد الفرنسيين، أُصدِر حكمٌ بالإعدام بحقه. فسافر إلى العراق وهناك انخرط في مواجهة الاستعمار البريطاني، ومارس الطب كنشاط اجتماعي، حصل نتيجة لذلك على هِبات منها قطعة أرض كبيرة، حوّلها إلى أرض زراعية تعاونية خُصِّصت لزراعة القطن. تبرَّع فيما نتج عن ذلك من أرباح إلى بناء مستشفى هناك. وبعد عودته من العراق تبرَّع بما كان قد حصل عليه هناك لبناء مستشفى في منطقته. وأسس نظاماً مبكراً للضمان الصحي في المنطقة، حتى قبل قيام هكذا نظام على مستوى الدولة. ضمّ نظام الضمان حوالي الـ 12 قرية. لم يعالِج البشر فقط، بل عالج الحيوانات التي اعتبر أنها من قوى الإنتاج التي يجب أن يشملها الاهتمام. وكان يتنقل بين المناطق في سيارته من البترون إلى بيروت لعلاج المرضى دون نفقة، وكان يتبرع بالدواء.

تطويع الطبيعة

هل تذكّرنا ذلك السّهل؟ كان النهر يعبر الوادي والبساتين، وكان يفيض ويغيِّر في اتجاهه دائماً، فلم تكن الزراعة مستقرة ولا مضمونة. وكان الخراب يحلّ بالأرض الزراعية والمحاصيل. فقال وقتها: إنه على الإنسان أن يطوّع الطبيعة (وهذا ينم عن بصيرة مادية واضحة). فأعلَنَ حالة تطوُّع بين الأهالي في المنطقة من أجل تثبيت النهر في مسار واحد، عبرتعميق الأرض ورفع الجدران المحيطة من أجل لجم النهر. ومن وقتها تحولت المواسم الزراعية وبالتالي حياة المزراعين والأهالي هناك إلى حالة من الثبات والأمان الغذائي والاقتصادي، فثبَّت الوادي اسمه «العاصي» وهذه المرة في مواجهة الطبيعة.

حول وفاته

أثناء قيامه بمهمة اجتماعية إلى بيروت، حصل مع معتوق ومن كان معه حادث سير في منطقة المعاملتين، أدخل على إثرها المستشفى، وفارق الحياة بعد ثلاثة أيام في أيلول من العام 1956. هناك روايات مختلفة حول وفاته، حيث يعتبر البعض أنه تم تأخير علاجه كون الطاقم الطبي قد علم من هو. وهناك رواية أخرى بأنه لم يكن معه إلّا 14 ليرة لبنانية في ذلك الحين، وبالتالي لم يحظ بأولوية الطاقم الطبي!

حول تكريمه

أنشئ تمثال لتكريمه في قريته بعد وفاته، وحضرت التكريم مجموعة من الشخصيات منهم (الشهيد) حسين مروة، والملحق الثقافي السوفييتي في بيروت وقتها، ورئيس التحرير السابق للمجلة الفكرية الثقافية «الطريق». تم تفجير التمثال لاحقاً في الحرب الأهلية من قبل «قوى الظلام». وأعيد نصب التمثال مجدداً في العام 1997 بحضور شخصيات لها حضورها الوطني.

بسبب اتساع تأثيره، استطاع مواجهة الإقطاع في منطقته عبر دعمه مرشحين للنيابة نحو الفوز، مرشحين لم يكونوا معروفين أساساً. كان معتوق شخصية سياسية على مستوى لبنان وسورية والمنطقة، فبعض الصور تجمعه بشخصيات معادية للاستعمار وقتها، كسعدالله الجابري.

وهو الذي قال في دمشق بمناسبة مؤتمر لحشد الطاقات ضد حلف بغداد: «أتينا من لبنان، لنؤكد التعاون معكم ضد العدوان وضد الحرب... لقد شَوَّه المستعمرون، من أجل مطامعهم، مفهوم التطور وحقروا بدعاياتهم الكاذبة مفهوم الحرية والحضارة الإنسانية... ولكن أثبت الواقع أنهم هم أعداء الشعوب... أتينا من لبنان لنضمّ جهودنا إلى جهودكم لمكافحة الإستعمار وأحلافه العسكرية، من أجل وحدتنا واستقلالنا التام».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1007
آخر تعديل على الإثنين, 01 آذار/مارس 2021 01:42