المبارزة الألمانية

المبارزة الألمانية

تعكس المبارزات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية مبارزات ثقافية إعلامية أيضاً، ولعل أكثرها فرادة في الوقت الحالي، هي المبارزة الألمانية مع كارل ماركس.

فالمبارزة ليست بالسيوف، إذ تشارك دور النشر ووسائل الإعلام ومعهد غوته ووزارة الخارجية والمحكمة الاتحادية والشرطة في الاشتباك مع صاحب «رأس المال» وجموع العمال في كل مناسبة.

الكتب الأكثر مبيعاً منذ 2008

في محاضرته التي حملت عنوان «لماذا تصعد الماركسية مجدداً؟»، قال ستورات جيفريز عام 2012: إن الرأسمالية متأزمة في أرجاء العالم ـ لكن ما هو البديل على الأرض؟ حسناً، ماذا عن أفكار فيلسوفٍ ألماني من القرن التاسع عشر؟
لقد كتب ماركس وإنجلز في ثاني أكثر الكتب مبيعاً في كل الأزمنة، البيان الشيوعي: «تنتج البرجوازية قبل كل شيء حفّاري قبرها. إنّ سقوطها (الرأسمالية) وانتصار البروليتاريا حتميان بالقدر نفسه».

وشهدت مبيعات كتاب «رأس المال»، تزايداً قوياً منذ 2008، وكذلك مبيعات البيان الشيوعي ونقد الاقتصاد السياسي، في حين كان عمال أوروبا يصارعون الظروف من أجل البقاء وسط الديون والتسريح من العمل. فبعد أكثر من ثلاثة عقود على تحطيم جدار برلين، يبدو أن ألمانيا الشرقية لم تنسَ الفيلسوف الملتحي بعد.
وكما كتب ماركس وإنجلز في آخر البيان الشيوعي: دعوا الطبقات الحاكمة ترتجف بسبب الثورة الشيوعية. ليس لدى البروليتاريين ما يخسرونه سوى أغلالهم. ولديهم العالم ليربحوه.

ماذا تقول دوتشلاند ودوتشيه فيلله؟

كتب موقع «دوتشلاند» في نيسان 2018، إن كارل ماركس ما زال يحرك الناس ويثيرهم حتى اليوم، من ترير حتى الولايات المتحدة وإلى الصين. حيث حققت مؤلفات كارل ماركس مبيعات مذهلة. فبيان الحزب الشيوعي بيع منه حوالي 500 مليون نسخة، وهو يحتل المرتبة الرابعة بين الكتب الأكثر مبيعاً في التاريخ على الإطلاق. وصنفت منظمة اليونيسكو «البيان الشيوعي» و«رأس المال» من بين الإرث الوثائقي العالمي.
وشهدت بداية العام 2018، أكثر من 400 احتفال رسمي في ألمانيا بمناسبة الذكرى الـ 200 لميلاد الفيلسوف، حيث وقفت كبرى وسائل الإعلام العالمية والألمانية مرتبكة أمام ذكرى ميلاد ماركس في أيار 2018، ولم تخف الحكومات رعبها أيضاً، وكذلك مالكو ومشغلو وسائل الإعلام.

غطت إذاعة «دوتشيه فيلله» أخبار احتفالات الذكرى الـ 200 وما رافق ذلك من إقامة 400 احتفال في المدن الألمانية، كما أصدرت ألمانيا أوراقاً نقدية تذكارية بقيمة «صفر» يورو، تحمل صورة ماركس، وشارك وفد يمثل رئاسة المفوضية الأوروبية في الاحتفالات، وحضر الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير نقاشاً في قصر بلفيو ببرلين، وقال في الاحتفال: «ماركس مفكر ألماني عظيم، أعماله مشبعة بإنسانية عاطفية حميمة، غير أن القوة الداخلية الدافعة لماركس كانت هي ظروف عصره، ولا يجب أن نخشى ماركس، ولا أن نصنع له تماثيل ذهبية». 400 احتفال رسمي ليقولوا: يجب ألا نخشى ماركس! ماذا يحدث بالضبط؟ الجواب عند مراسل نيويورك تايمز في كوريا الجنوبية: «إذا كان هناك دليل واحد على خطر الفلسفة فهو كارل ماركس».

هل سيُمنع حق الإضراب؟

عجّلت الوحدة الألمانية بحدوث انهيار كارثي للإنتاج الخام الحقيقي لألمانيا الشرقية، بانهيار وصل إلى 15,6 % سنة 1990، و22,7 % سنة 1991، ثم وصل إلى الثلث. وجرى فقدان ملايين الوظائف. أُغلقت العديد من المصانع، وحدث ركود سنة 1996. وأعادت الأزمة الاقتصادية عام 2008 كارل ماركس إلى دائرة الاهتمام الواسع، وخاصة شرقي ألمانيا. وحدثت الإضرابات العمالية الكبرى في جميع أنحاء ألمانيا احتجاجاً على التسريحات التعسفية للعمال، وانخفاض الأجور والخصخصة وارتفاع الأسعار. ففي العام 2016 وحده، سرحت الشركات الألمانية 45 ألف عامل، ووظفت 100 ألف لاجئ بأجور أقل!

وكان وقع نشاط الحركة العمالية ثقيلاً على السلطات الألمانية لدرجة أن المحكمة الاتحادية بدأت في العام 2017 تناقش قضية تجريم حق الإضراب للموظفين الحكوميين، ضاربة عرض الحائط القوانين الألمانية والأوروبية، وذلك بحجة الأمن القومي والحفاظ على النظام العام ومنع الموظفين من مغادرة مقر العمل إلّا بإذن من الرؤساء!

بيانات دار نشر واحدة

أصبح كتاب كارل ماركس الشهير «رأس المال» الكتاب الأكثر مبيعاً عند دار النشر كارل- ديتز- فيرلاغ بعد الأزمة الاقتصادية لعام 2008، حيث باعت الدار أكثر من 1500 نسخة عام 2008، أي: 3 أضعاف مبيعات 2007، وأكثر من 100 ضعف لمجمل المبيعات منذ 1990.
رأس المال، هو الكتاب الذي أحرقه هتلر في ساحات برلين مثلما حُرقت كتب ابن رشد في قرطبة العصور الوسطى، وهو الكتاب الذي دفع بابا الفاتيكان بيوس التاسع إلى إصدار أمر لوضعه على رأس قائمة الكتب الملعونة التي كان الفاتيكان يصدر بها قوائم المنع بين الحين والآخر. وهو الكتاب الذي قال عنه الرأسماليون الألمان عام 1989 بأن زمنه قد ولّى!

زفرة الهيغليين الأخيرة

حتى هذه اللحظة، عجزت السلطات الألمانية والرأسمالية الألمانية عن هزيمة ماركس في ساحات ألمانيا، لذلك قرر القائمون على وزارة الخارجية الألمانية ومعهد غوته نقل المعركة مع ماركس إلى البلدان الطرفية ما وراء البحار، عبر تمويل إصدار الكتب الألمانية التي تحارب ماركس باستخدام كُتّاب يملكون مهارات المراوغة اللغوية. إنها زفرة الهيغليين الأخيرة في القرن الواحد والعشرين.
«على قد لحافك مد رجيلك» هكذا يقول المثل الشرقي الشهير، ولكن الرأسماليين الألمان لم يفهموا ذلك، وهم المأزومون الكبار، فأزمتهم من وزن «اقتصادهم الحديدي»، وتشبه هذه الخطوة بلداناً إمبريالية أخرى تخوض حروباً ما وراء البحار لمنع انفجار أزمتهم، ولكن الانفجار حدث رغم ذلك! مع الفرق، أن الألمان يخوضون هنا معركة على الجبهة الثقافية-الإعلامية.
ارتفعت الأسعار في السوق الألمانية بنسية 25 % خلال عشر سنوات وخاصة الفاكهة واللحوم والمواد الغذائية الأخرى، حسب ما كتبته صحيفة تاغس شاو مؤخراً، ويبدو أن الألمان ليسوا سعداء بما يحدث، لذلك يبحثون خلال امتعاضهم من الأسعار، عن مؤلفات كارل ماركس، الفيلسوف الملتحي الذي عجزت الرأسمالية الألمانية عن هزيمة أفكاره في ألمانيا.

شبح السوفييتات الألمانية

قبيل أسابيع، أحيا آلاف البرلينيين ذكرى قادة ثورة السوفييتات الألمانية، روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت، و31 من القادة الذين أعدموا في العام 1919، في تقليد سنوي تشهده جميع الولايات الألمانية، ولكن كانت برلين على موعد مع قمع الشرطة هذه المرة، بحجة وجود أعلام من ألمانيا الشرقية!
كل ما سبق، أجزاء من خارطة الأزمة الألمانية الحالية، وانفجارها القادم، وخوف الرأسماليين الألمان من الثلاثي الأحمر في تصاعد، ثلاثي كارل ماركس والإضرابات العمالية، وشبح ثورة السوفييتات الألمانية قبل قرن من الزمان. فهل سيكون العام الحالي 2021 عاماً قاسياً على «ديمقراطية إصدار أوامر منع التدخين في المقاهي»، وعلى الألمان، وآخر الهيغليين في الزمان.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1004
آخر تعديل على الإثنين, 08 شباط/فبراير 2021 00:15