كلمة في مديح الصراخ الجماعي!
1
يتراكم حزنٌ شفيفٌ في صدورنا يوماً وراء يوم، وجيلاً وراء جيل. نسهوا عن أنفسنا وندفع عنها الغيظ بالانخراط بكلّيتنا في دوامة العيش وفق «الكاتالوغ»؛ الطالبُ منا، يدرس لعلّ وعسى ينال شهادةً «محترمة» تفتح له طريق عيشٍ محترماً، ونافذة صغيرة خجولة على أحلامٍ أكبر. العاملُ «الذي لا يملك غير قيوده ليكسرَها»، يتشاغل عن القيد حدّ النسيان مُعللاً القلب بحلم البيتِ والحبيبة والأسرة. الفلاحُ بدوره، يتغافل عن حقيقة أنّ ما هو أهم من كون «الأرض لمن يعمل بها»، هو أن يكون منتوج الأرض لمن يعمل بها؛ فأيّ خيرٍ في أن يملك أرضه على الورق بينما يزرعها «مرابعاً» عند وحوش السوق؟ بل ولا يطول الزمن حتى يضطر لبيعها للإقطاعيين القدامى الذين خلعوا الطرابيش ولبسوا البدلات الرسمية... مع ذلك، فهو لا يزال يحلم بأمطار حانية، وغلالٍ وفيرة، وأعراسٍ عامرة في المواسم.
لن أهدر كلاماً في الحديث عن حال التجار وكبار العسكر وكبار الدولة، و«الكبار» عموماً؛ فأولاء لديهم من المنابر ما يكفي لاعتبارها سبباً أساسياً من أسباب التلوّث العالمي بالضجيج. وبعدُ، فنحن بحاجة ماسةٍ لشيء من الهدوء، بل وحتى الصمتْ... فاللحن الذي نعزفُ، له رهبة وقفات الصمتْ، كتلك التي في كونشيرتو الصمت لبيتهوفن، أو في التلاوة الإبداعية لعبد الباسط عبد الصمد.
تضيقُ أحلام أبطالنا «الصغار» موسماً وراء موسم، وعاماً وراء عام، تضيق حدّ الضياع، فيعتكر الحزن الشفيف ويغدو حزناً أسود ثقيل الوطأة، ويعتمل القهر في الصدور.
نتنسم ريح الأصوات المتعالية والآهات المنداحة في الفضاء القريب، وإذا بنا جموعاً جموعاً، نملأ الشوارع... وتبدأ العاصفة!
2
يعترينا فرحٌ طِفليٌ مشاغب. ها نحن أولاءِ نصرخ معاً. يرنّ الهتاف بين ضلوعنا محدثاً أصداء عجيبة؛ كأنما تصبّ الأصوات بين جوانحنا فتتلمسها بلطفٍ، كلطف أنامل كفيفٍ تتعرف باللمس وجهَ من يحب... كأنما تغتسل أرواحنا بالهتاف، في طقسٍ يحمل قداسة غامضة اكتشفناها للتو. سننتبه لاحقاً إلى المعاني الكامنة في ما يقوله هتافنا، وفي الاختلاف والخلاف حول ما هو الصحيح قوله. سيتم طحننا بين من يُشهر العداء لنا، وبين من يكنّه ويتخفى بين صفوفنا... ولكن ذلك كلّه لا ينتقص البتة من أهمية ما اكتشفناه، ليس بوصفه «فهماً» لما جرى خلال عشر سنوات، بل بوصفها اكتشافاً لقوانين كانت صحيحة قبل آلاف السنين، ولا تزال، وستبقى، ومن هنا تأتي أهميتها...
3
أول اكتشافاتنا كان أنّ الحياة وفقاً «للكاتالوغ»، ليست مثالية ولا جميلةً، بلْ ولا تستحق حتى أنْ تُعاش، وأنّ في الحياة ما هو أكثرُ حياةً...
اكتشافنا الثاني كان أكثر إبهاماً. ربما مرّ قارئ هذه السطور بتجربة متابعة مباراة حيّة لكرة القدم وهتف لفريقه بين الجموع الصاخبة على المدرجات. أو أنّه حظي ذات مرة بالاندماج بحلقة من حلقات «الله حي» في زاوية من زوايا الدراويش. سيكون من الأسهل عليّ أن يكون قد مرّ فعلاً بتجربة التظاهر. وإنْ لم يكن قد مرّ بعدُ بأيٍ من هذه التجارب، فإنّي واجدٌ صعوبة تشبه الاستحالة في نقل الشعور إليه.
أجرّب حظّي بمحاولة قول كلامٍ من النمط الذي يُسمى «نظرياً»... يُقال إنّ الإنسان كائن اجتماعي، أي أنّ الاجتماع أصلٌ في كينونته. والعصور التي تحكمها مقولات من نمط «عسكري دبر راسك»، «ما بحك جلدك غير ظفرك»، «أنا ومن بعدي الطوفان» وإلخ، العصور التي يحكمها السعي الفردي والأناني، وتحكمها فوق ذلك الخيبة وتكسّر الآمال، عصور كهذه ليست إلا عصور غُمةٍ وكربٍ وقهرٍ واغتراب.
بهذا المعنى البسيط، والمبهم في آن معاً، فإنّ هتافنا الجماعيّ، صراخنا الجماعي، كان اتصالاً بجوهر كينونتنا؛ كانت أصوات الآخرين وأكتافهم التي تلتصق بأكتافنا، خط هاتف مباشر بين كل منا، وبين ذاته البعيدة، المغتربة، المغرّبة.
4
يحملنا الصوتُ الموحّد الهادرُ إلى أفراحٍ قديمة مختزنة في أركانٍ زاهيةٍ من الذاكرة الجمعية للبشر، أركانٍ حجبتها عصور الربح والجشع، وما من مفتاح لها سوى الاجتماع، سوى التعاون، سوى الانتماء للجموع... كأنما انجلت الغمة وانكشف الحجاب: انتماء الواحد منا إلى ذاته، تناغمه مع ذاته، يمرّ بالضرورة عبر انتمائه للجموع المقهورة، ليس آنَ تصرخُ فقط، بل وحين تغني وحين تصمت وحين تصبر وحين تئن.
وإذا كان الفلاسفة - قدامى ومحدثين - قد أجمعوا أنّ أصل القيم الإنسانية جميعها، وأعلاها مرتبة، هي الحق والخير والجمال، فما علّمنا إياه صراخنا الجماعي (الذي لم يغب إلا ليعود عمّا قريب أعلى هديراً وأنقى مضموناً وأنضج ثماراً)، ما علّمنا إياه هو أنّه دون اجتماعنا، دون تعاوننا، دون اتحادنا... لا الحق حق، ولا الخير خير، ولا الجمال جمال... فطوبى للصارخينَ يكرزون في الأرض مبشرين بعالمٍ جديد؛ عالم يسوده الحق والخير والجمال.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 000