الإلقاء الشعري: بدلة على مقاس الكلام

الإلقاء الشعري: بدلة على مقاس الكلام

في المدرسة الابتدائية يتعلم الأطفال شكلاً واحداً لفن الخطابة والإلقاء؛ طفلٌ يقف في منتصف قاعة الصف، يصرخ بصوتٍ عالٍ مشدداً على نهاية كل كلمة، يقول أبيات الشعر بأكبر درجة ممكنة من الغنائية، وبلحنٍ يكاد يكون واحداً، كما لو أن الإلقاء بدلة مفصّلة مسبقاً يتم خلعها على كل القصائد وبذات الطريقة. وليس على الأطفال الآخرين الذين يريدون إتقان السر سوى تقليد الإيماءات والأصوات التي تصدر عن هذا الطفل. فالصراخ في المدرسة سر الخطابة الجيّدة.

أما خارج حدود المدرسة، وفي عالم الكبار كان هذا الطفل الذي يتم تقليده محمود درويش. الذي أثّر على أجيالٍ وأجيال من الشعراء العرب الصاعدين في الطريقة التي يلقي بها قصائده. يلفظ محمود درويش بعض الكلمات بنوع من الاستهزاء، كما لو أن سخريته المرّة ملازمة لكل كلمة يقولها. في الوقت ذاته، يشي صوته بكثير من القوة والثبات، بحيث يبدو أحياناً شكلاً من أشكال الزهو أو التوعّد. لكن كل تلك التفاصيل المرتبطة بالصوت الحاد الواثق الساخر المختال هو صوت درويش، وهي الطريقة التي اختارها كي يقول شعره وليعبر عن موقفه من القضايا التي يعالجها في قصائده. ولهذا وبالنسبة للكثيرين، يشكل طقس الاستماع إليه وهو يتلو أشعاره، جزءاً لا ينفصل عن متعة تلقي تلك القصائد مقروءة. فالأداء هنا يمسي جزءاً من الخصوصية الشعرية.

اللهجات كخصوصية ثقافية

اقترنت الخصوصية الشعرية لبعض الشعراء العرب بتوظيفهم الظاهر للهجات المحلية، يبدو هذا بينّاً في طريقة إلقاء الشاعر العراقي مظفّر النواب أو الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم. لكن اللهجة الظاهرة وحدها ليست كافية لخلق الخصوصية. مع ذلك نرى هذا التوجّه في الاتكاء على اللهجة، موجوداً عند الكثير من الشعراء الجدد اليوم، ويظنون بأن ذلك أمرٌ كافٍ لتميّز قصائدهم عن غيرها. لكن نتاجات هؤلاء تخرج دون تحليل حقيقي للغة المحكية الدارجة من حيث مقدراتها وبنيتها وطبيعتها الصوتية.

الإلقاء كما يبدو فن التفاصيل. فلنقارن على سبيل المثال بين الطريقة التي يلقي فيها شعراء العامية المصرية أشعارهم؛ عبد الرحمن الأبنودي بلهجته الصعيدية المحببة وهو يلفظ حرف (الغين) بدلاً من القاف، ويشدد على لفظة الجيم فتخرج مفخّمة، أو يحوّل الشين إلى سين في بعض الأحيان. في حين لا يعبأ أحمد فؤاد نجم من عدم لفظه لبعض الحروف، وكثيراً ما يقول قصائده كأنه يُحدّث على عجل صديقاً في مقهى. على الرغم من أن اللهجة هنا تكاد تكون واحدة، لكن إلقاء الأبنودي مختلفٌ تماماً عن إلقاء نجم. من المؤكد بأن اللهجة المصرية تمتلك خصوصيات وطواعية خاصة، وهذا ما نراه جليّاً في بعض التجارب الشعرية الشابة لشعراء مصريين اليوم.

الصوت الداخلي والصوت الخارجي

تقول الكتب والمراجع المهتمة بفن الإلقاء: إن قوام الإلقاء الجيّد نطق الكلام من دون أخطاء وبشكل سليم، هذا إلى جانب المقدرة على التعبير الانفعالي من خلال النص الشعري، ويقال أيضاً: إن الشاعر لا بد من أن يمتلك صوتاً قويّاً ورخيماً، بالإضافة إلى الحضور الأدبي والجاذبية، يشار أيضاً إلى ضرورة الانتباه للإيقاع والنبر وعلامات الترقيم والتلوين في الصوت، بحيث لا يكون للصوت إيقاعٌ رتيبٌ واحد. لكن هذا الكلام يبدو أشبه بوصفة أو طريقة تحضير جامدة ومقتضبة، تخفي السر أو البصمة الخاصة، التي تجعل المرء قادراً على تقديم إلقاء مؤثر لا يُنسى.

يدرك من يكتب الشعر أو النثر، أن هناك فرقاً بين صوت المرء الداخلي حينما يعمل على كتابة نص، ويكرره في قرارة نفسه كي يستمع إلى إيقاعه، وبين الصوت الخارجي الذي يُطلقه إلى العلن على مسمع الآخرين. محظوظون هم من يستطيعون توحيد أصواتهم الداخلية مع تلك الخارجية، بحيث يخرج صوتهم العالي تماماً كما أرادوه، ملتصقاً بالنص الذي أنجزوه.

ففؤاد حداد مثلاً، ورغم كونه يُعد واحداً من أبرز الشعراء المصريين الذين كتبوا بالعامية المصرية، لكن قد لا يعرف الكثير من محبيه صوته الحقيقي أو يتذكرونه. فعلى سبيل المثال: يمكن سماع قصيدته الشهيرة (الحلزونة) بعشرات التسجيلات التي قدمها شبّانٌ استطاعوا تحليل القصيدة، ومن ثم إلقاءها وإخراجها على الملأ كما لو أنهم من قام بكتابتها، في حين غاب صوت مؤلفها الحقيقي. وتلك أيضاً ميزة أخرى، فالشاعر قادرٌ أحياناً على استعارة حناجر الآخرين لقول كلماته.
أن يكلّم الشاعر نفسه

يتم نقاش خصوصيّات الإلقاء والبصمة المتفردة للشعراء الجدد، على اعتبار أنه لا حاجة للخوض في البديهيات كصحة الإعراب والتنوين، وتجنب ضعف الصوت ورجفانه. لكن الواقع ليس كذلك، فكثير من الشعراء الجدد لم يتقنوا أولى دروسهم، فيراهم المرء ينصبون المجرور ويرفعون المنصوب ويبتلعون أواخر الحروف أو يلوكونها. والمشكلة أن أخطاءهم تلك تبدو أشد فداحة وهي تقال ملء الصوت، بحيث تخدش الآذان وتبني جداراً بين المستمع وبينهم.
فالشاعر قبل أن يقرأ شعره على الآخرين يجب أن يكّلم نفسه ويألف صوته ويفكر فيما يقوله وكيف يريد قوله. على الشاعر أن يجد صوته أولاً قبل أن يستخدمه.

في الازدحام الذي يعيشه العالم اليوم أحياناً ما يُنسى فن الإلقاء، بحيث يبدو وسيطاً بائداً من زمنٍ سحيق، كان فيه الناس يحتاجون للصراخ ورفع أصواتهم كي يسمع العالم ما يريدون قوله. أما اليوم فيكفي نشر مئات الدواوين الشعرية الورقية، أو رفع بوست على الفيسبوك يتضمن قصيدة جديدة. لكن الحقيقة أن العالم اليوم محتاجٌ لسماع الشعر بذات الطريقة التي يحتاج فيها قراءته. الناس تتوق إلى أن ينسكب الإيقاع الشعري في آذانها دون جهدٍ، وأن يورطها ذلك بالانتباه إلى ما يقال، وإصغاء السمع للنظام الذي يخلقه صوت الكلمات حينما تصطف وراء بعضها البعض.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1003
آخر تعديل على الإثنين, 01 شباط/فبراير 2021 08:00