مدرسة الممارسة.. وسؤال «مَن يُرَبّي المُربّي»؟

مدرسة الممارسة.. وسؤال «مَن يُرَبّي المُربّي»؟

درجت منذ سنوات موضة أخرى تضاف إلى باقي صرعات عصر الجنون الرأسمالي، تتعلَّق بالتربية «الحديثة» ودفاتر شروطها، والتي هي حسب الزعم السائد تشكِّل منشأ المجتمع الجديد. وإلى جانبها نبتت عشرات القطاعات العلمية والوظيفية والدعائية لترافق هذه الصرعة «النهضوية» وتدعم تنفيذها. ويجري كل يوم إخضاع الملايين لهذا الوهم التضليلي؛ أنّ مدخل التغيير الأساس يكمن في عملية التربية، ويقولون: «لكي نغير المجتمع علينا أن نغير التربية»!

عن تربية المربّي

فات هذا الخط أنَّ من يقوم بفعل التربية على أسس جديدة، عليه هو نفسه أن يخضع لتربيةٍ جديدة لا يمكن أن تحصل إلا عبر التجربة الجديدة في المجتمع الجديد وعلاقاته الجديدة، على حد تعبير ماركس.

والتناقض الذي يقع فيه هذا الخط هو أنَّ مرجعية المضمون التربوي اليوم، الذي يدعو الخط التربوي إلى اعتمادها في إجراء النقلة المطلوبة، هذه المرجعية لا يمكن أن تكون إلا المعايير والقيم والاتجاهات والثقافة السائدة. وهذه المرجعية نفسها هي نتاج هذا المجتمع المطلوب تغييره بالذات. هكذا تنغلق الدائرة على نفسها. فكيف يمكن للجديد أن يولد اعتماداً على أرضية القديم عبر استخدام مُنتَجات القديم الثقافية نفسها؟!

حسناً. ولكن قد يقول قائل: ولكن المُنتَج الثقافي ليس بكامله ينتمي للسّائد! هذا صحيح. هناك المنتج الثقافي والمعياري المنتمي إلى النقيض القائل بالمجتمع الجديد. ولكن هذا المُنتَج، أولاً، لا يجد طريقه إلى منصات التربية نفسها وإلى وعي المربّين. ولكن، وهذا هو الأهم، إنّ هؤلاء المربين، حتى وإنْ حملوا محمولاً ثقافياً نقيضاً للسائد، ولكن ليست المسألة هي فقط كلامية وقيميّة. إنها قضية بنية شخصية ووعي. فحتى الحاملون للطروحات النقيضة، يعيشون هم أنفسهم واقعاً متناقضاً في الغالب. وهذا ليس غريباً على الماركسية وطروحاتها.

فالتطور الاجتماعي لا يحصل بشكل متجانس. فإذا وعى الفرد الوجودَ الاستغلالي وواقعَه الطبقي المباشر، فليس سهلاً على مجال البنية الشخصية والاغتراب المعنوي والنفسي أنْ يكون بالمستوى ذاته من الوعي. إذاً، وهذا هو الغالب، أنْ يكون الفرد حاملاً موقفاً متناقضاً، ثورياً من جهة، له علاقة بجانب من الواقع، ومحافظاً في جانب آخر، يتعلق بجانب آخر من الواقع.

كيف تنكسر الحلقة؟

حسب الماركسية، إن ولادة الجديد لا تتمّ في حقل الوعي، بل في حقل الممارسة. وهنا أيضاً، لن تولد الثقافة الجديدة، وقيمها ومعاييرها، إلا في حقل الممارسة. ومن هنا مقولة ماركس: مَن يربِّي هو نفسُه عليه أنْ يخضعَ للتربية. أيْ: عبرَ الممارسة نفسها المتوجهة للتغيير، وفقط عبرها، تتطور السلوكيات الجديدة تجاه ظواهر الحياة. وهذا مرتبطٌ بقانونية موضوعية أساسية، هي: إنّ نجاح الحركة التغييرية يقتضي في مختلف مراحله موقفاً جديداً من ظواهر الحياة السابقة، إنْ كان في العائلة أو الموقف من الطبيعة أو الموقف من الذات، أو الموقف من الآخر، وضمناً العلاقات العاطفية... وهذه كلها بالنهاية هي مستويات قيميّة، تربوية، سلوكية.

ولكن حاجة تطوير هذا الموقف تجاه هذه القضايا ينبع من تطور الممارسة ومدى جذريتها والمدى الذي وصلتْه قدرتها على قلب العلاقات. فالحركة التغييرية نفسُها إنْ لم تتطور إلى مستوى متقدم، فقد لا تنطرح كل القضايا القيمية والثقافية الجديدة على البشر الذين هم جزء من هذه الحركة. وهذا ما قصدناه أعلاه بأن التطور لا يتمّ بشكل متجانس، بل متفاوت.

لذلك، عبر الممارسة وحدها تولد القيم الجديدة التي هي تعبيرٌ عن موقع جديد تجاه الظواهر. ولهذا مثلاً، لا نزال نرى أفراداً حاملين لقيم «قديمة» وسلوكيات «قديمة» على الرغم من تبنّيهم لموقع سياسيٍّ «جديد».

الجديد حاضراً في أحافير الحركة

إنّ مراجعةً لكتابات الثوريين في المراحل الثورية التي وصلت مستويات القطع التاريخي، أي: التي وصلت في مدى تطورها إلى اتخاذ مواقف جذرية من مختلف ظواهر المجتمع القديم، تُظهِر أنَّ هناك جديداً تربوياً حاضراً في كتاباتهم، ولكنه لم يَعبُر إلى الحركة ككل، بل بقيَ كالتعاليم مكتوبة، وهذا مرتبط بما قلناه سابقاً عن أن الحركة نفسها لم تتطور إلى مدىً احتاجت فيه إلى أن تعكس تلك المعايير في ممارستها، لأنها كانت بالأساس حاضرة في رؤوس المنظِّرين الذين وضعوها. وتحديداً تلك الظواهر المرتبطة بقضايا اجتماعية إشكالية، منها موقع المرأة، والعائلة، والسلوك الفردي اليومي. فموقع المرأة أو حتى الموقف منها، يحدِّد مدى ما بلغَه المجتمعُ من تطور. وهنا يمكن أن نضيف، أنّ الموقف من المرأة في أية حركة ثورية يحدِّد مدى تطور هذه الحركة نفسها. هذا الموقف من المرأة ضروري اليوم بعد أن تلوَّثَ الواقع بالأرضية الليبرالية التي هي الطرفُ النقيض مِن الموقف «المحافظ». فالموقف الليبرالي أدى ليس فقط إلى تسليع العلاقات الفردية، بل أدى إلى ضرب المرجعية القيميّة نفسها، وجعل العلاقات خاضعة لموقف العرض والطلب، واللهاث خلف إشباع الحاجات السهل ضمن وجودٍ مغترِب.

وجود هذه الأحافير التربوية نفسها وعند الرموز الثوريين أنفسهم، يعبّر عن أنَّ وجود مستوى تربوي ما لا يعني أنه سينعكس بسهولة في ممارسة المجتمع. بل على المجتمع ككل أنْ يعبر في ممارسة تاريخية هي التي ترسي ما ستقوم بتربيته وتعليمه بشكل جديد. تلفظ القديم وتفرض من خلال ضرورة إنجاح الحركة نفسها تبنّيَ الجديد من القيم والمعايير والسلوكيات.

الموقع-الممارسة في مواجهة الموقع التربوي المدرسي

في الخلاصة، إنَّ ولادة الجديد تمرُّ بالضرورة عبر المستوى السياسي الذي قد تبلغه الحركة التغييريّة. فعائق تطور الحركة هو بالأساس عائقٌ سياسي. ومن هنا نقول: إن المدى الذي قد تبلغه الحركة التغييرية هو المدى الذي سيحدد المنصة التي سيقف عليها المجتمع ككل. والعكس صحيح، أي: إنَّ إعاقة تقدم الحركة إنْ كان بسببٍ ذاتي أو موضوعي، يعني أنَّ القديم سيعاد إنتاجه ولو بأشكالٍ مشوَّهة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1003
آخر تعديل على الإثنين, 01 شباط/فبراير 2021 08:08