منظومة رموز الولايات المتحدة

منظومة رموز الولايات المتحدة

طوال عقود يُضرب المثل بالولايات المتحدة الأمريكية في المقدرة الاستثنائية على توظيف الرموز الوطنية لخدمة أهداف إيديولوجية وسياسية. بدءاً من العَلَم بألوانه ونجومه المميزة، ومروراً بالأعياد الرسمية والصروح المعمارية للسياسة الأمريكية، كالبيت الأبيض ومبنى الكونغرس وغيره، وصولاً إلى تمثال الحريّة، والنصب التذكاري الوطني لوجوه رؤساء أمريكيين سابقين في جبل راشمور، وتم تكريس تلك الرموز جميعها لتصبح جزءاً من ذاكرة الكبار والصغار حول العالم.

وبصورة مختلفة قليلاً عن نهج الكثير من الدول، لم تكتف الولايات المتحدة بإضفاء الهيبة والقدسية على تلك الرموز الوطنية، لكنها أيضاً سمحت بإتاحتها وتداولها ضمن الحياة اليومية والإنتاجات الثقافية على نطاق العالم ككل، وسمحت أيضاً بطباعة واستهلاك ألوان العلم الأمريكي على القماش وأواني المطبخ وغير ذاك من السلع. فالهدف كان ربما إظهار سطوة تلك الرموز عبر نشرها على أوسع نطاق، كما لو أن الهيمنة تتحقق هنا عبر جعل العالم بأجمعه يألفها، ويشعر بحضورها وطغيانها.

مراسم التنصيب: دال لمدلول غائب

تعد مراسم تنصيب كل رئيس أمريكي جديد استكمالاً لمنظومة الطقوس والإشارات، فلكل حركة وفعل وإيماءة دلالتها ومعناها. وعادةً ما تقام مراسم تنصيب رئيس الولايات المتحدة أمام مبنى الكابيتول في واشنطن، وهو مقر الكونغرس (البرلمان). وينص الدستور الأمريكي على أن يؤدي الرئيس المنتخب اليمين أمام رئيس المحكمة العليا. وتنص تقاليد السلطة أيضاً على أن يستقبل الرئيس المنتهية ولايته وزوجته خلفيهما في البيت الأبيض يوم التنصيب صباحاً، ليتوجهوا معاً إلى مقر الكابيتول. لكن هذا ما لم يحدث هذه المرة، بعد أن قرر دونالد ترامب مغادرة مقر السلطة في أولى ساعات يوم التنصيب، ليتجه إلى مقر إقامته في منتجع بولاية فلوريدا.

وبعد أدائه اليمين الدستورية والقسم المؤلف من 35 كلمة، يقوم الرئيس الجديد وزوجته والموكب المرافق لهما عادة بجولة على طول جادة بنسيلفانيا، والتي تفصل البيت الأبيض عن الكابيتول. وبعد ذلك تتم زيارة مقبرة أرلينغتون (التي دفنت فيها عدة شخصيات أمريكية وطنية) سيراً على الأقدام برفقة الرؤساء الأمريكيين السابقين، ليضع الرئيس الجديد إكليلاً من الزهور على ضريح الجندي المجهول. وعادة ما يلحق ذلك مناسبات وطقوس أخرى، مثل: جلسة العشاء في مقر الكابيتول إلى جانب البرلمانيين، وحفلات موسيقية عدة تقام عادة في واشنطن ليلة حفل التنصيب. وتهدف كل تلك الطقوس لتصوير السياسيين الأمريكيين كأسرة أمريكية سعيدة ومتكاتفة.

لكن التغيّرات السياسية والإقليمية التي تعصف بالولايات المتحدة الأمريكية على صعيد داخلي وخارجي، إلى جانب تأثيرات وباء كورونا، تغيّر اليوم دلالات وشكل تلك الطقوس. كما لو أن الدال (الطقس) يبقى والمدلول (المعنى) يتغيّر ويتبدل. 

فمراسم تنصيب كل رئيس أمريكي جديد تعد استكمالاً طقسياً للصورة التي أرادت الولايات المتحدة أن تكرّسها عن نفسها كدولة حريات وديمقراطية، يحتكم فيها الرؤساء لسلطة القانون، ويعبرون عن ولائهم لتراث الأجداد ممن سبقوهم، وتقديسهم للإنجيل والموروث الديني المرتبط به. كما تعبّر تلك الطقوس عن الشكل «الحضاري» لبلاد يتم فيها تداول السلطة سلمياً ودون مشكلات. لطالما حملت الطقوس الجماعية من هذا النوع هالة من الاستمرارية التاريخية والشرعية، لكنها اليوم تتعرض بدورها لهزّة عنيفة. هل فعلاً ما تزال تلك الطقوس تعني ما تعنيه وتدلل عما وجدت من أجله؟

العبث في الطقوس عبر السوشل ميديا

شهدت الأشهر الماضية تمازجاً هزلياً وساخراً بين فكرة الطقس كجزء من اللاشعور الجمعي، وجزء من الذاكرة الإنسانية وبين التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي، التي باتت اليوم لاعباً أساسياً في كل ما يحصل. 

ومن أمثلة ذلك: اتخاذ شركة تويتر قراراً بتجميد حساب دونالد ترامب عبر موقعها، ومنعه من استمراره في نشر تغريداته، وهي خطوة غير مسبوقة لم تحصل من قبل. رافق تلك الخطوة الكثير من الفكاهة الشعبية داخل وخارج أمريكا، التي سخرت من تجريد ترامب من أحب الأسلحة إلى قلبه (التغريدات) وصورته كطفل يحاول الغش والتنكر للدخول إلى توتر بصورة ملتوية. من جهة، نُظر إلى تلك الخطوة كتعبير عن مقولة «لا أحد فوق القانون»، ومن يخالف شروط الموقع يُحظر، حتى لو كان رئيساً سابقاً للولايات المتحدة، في حين انتقد البعض قرار الحذف، وقالوا: إنه انتهاك للتعديل الأول للدستور الأمريكي الذي يكفل حرية التعبير. 

إبان حفل تنصيب جون بايدن رئيساً جديداً للولايات المتحدة الأمريكية، وصل لبعض مستخدمي الفيسبوك إشعارٌ يخبرهم بأن اسم الصفحة الرسمية للبيت الأبيض تغيّر ليصبح: «أرشيف الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض». وبالفعل عند الدخول للصفحة يجدها المرء وقد أمست صفحة دعائية لترامب تصوره كبطل أمريكي أسطوري، وتضع مقتطفات من خطاباته، أو تعرض لقطات مصحوبة بموسيقى حزينة تصور خروجه من البيت الأبيض للمرة الأخيرة. وبالتالي «فالانتهاك» الذي طال مبنى الكونغرس واقعياً مع دخول بعض أنصار ترامب إليه وتحطيم بعض موجوداته، استكمل اليوم بـ «تهكير» افتراضي للصفحة الرسمية للبيت الأبيض، كما لو أن كل ما يجري جزءٌ من مشهد هزلي توضع فيه جميع «الرموز» على الطاولة، ويتم العبث فيها.

سخرية مُرّة من واقع قيد التغيير

لقيت مشاهد اقتحام الكونغرس من قبل أنصار ترامب موجة واسعة من السخرية، لكن اللافت في الموضوع أن الكثير من تغريدات الأمريكيين وتعليقاتهم التي تبعت الحادثة ركزّت بمعظمها على فكرة واحدة فقط: تغيّر موقع الولايات المتحدة ضمن الخريطة الدولية العالمية. فمعظم التعليقات والصور التي تم نشرها تخيّلت ردود الفعل «الشامتة» لباقي رؤساء العالم من الدرك الذي وصلت إليه أمريكا، فيما ركز الجزء الآخر من التعليقات على فكرة: أن العالم وإذا ما سأل الأمريكيين عن حالهم سيجيبون «نحن لسنا بخير». 

يركز الضخ الإعلامي الأمريكي اليوم على ربط تشويه الرموز والطقوس الأمريكية بترامب وأتباعه، فترامب وفق وجهة نظر الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية هو «اللطخة» الوحيدة على ثوب بلاد الديمقراطية واحترام حريّات التعبيّر، وبزواله سيرجع الثوب «أبيض» كما كان، في حين أن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك، فالثوب اليوم يتمزق ويترقّع وتبهت ألوانه. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1002