العمل مصدر الحياة والثروة المادية والروحية: الفُصام نموذجاً!

العمل مصدر الحياة والثروة المادية والروحية: الفُصام نموذجاً!

في مواد سابقة، كنا أشرنا إلى أن الفصام هو حالة عقلية تتمظهر من خلالها أزمة علاقة الفرد بواقعه، الرأسمالي تحديداً، بشكلها الحاد. وكنا أشرنا أيضاً إلى وجود فروقات فكرية فلسفية سياسية في تناول الظاهرة، وينحصر التمايز بين التيارات بين اتجاهين عامّين، الأول: يركز على الجانب البيولوجي والبحث القائل باضطراب كيمياء الدماغ، أو خلل جيني هو أساس الفصام. والثاني: هو الذي يعطي الجانب الاجتماعي السياسي الوزن السببي في هذا الاضطراب. وأحيانا نشاهد أيضاً الربط الميكانيكي للربط بين الاتجاهين. وفي هذه المادة سنشير إلى نموذج من الاتجاه الثاني المضاد لما يسمى بالاتجاه العقاقيري المرافق للاتجاه البيولوجي.

عن الفصام: معاناة إنسان اختلّ واقعه

الفصام في توصيفه العام الذي يجمع عليه الغالبية، هو تفكّك في علاقة الفرد مع الواقع، وله ملامحه «الإيجابية» (أي: النشطة) كالهلاوس والتهيؤات والتوهمات، وله ملامحه «السلبية» (الخاملة) التي هي تفكك وحدة بنيته العقلية، وتهدّمها إلى حطام، فينتقل الفرد إلى حالة عزلة شديدة فاقداً لأية فاعلية اجتماعية. ويعتبر الاتجاه الثاني الاجتماعي أن اختلالاً ما في واقع الفرد سبَّب هذا النوع الحاد من المعاناة العقلية. إنها إذاً معاناة إنسانية كما غيرها من أنواع المعاناة المادية والمعاناة. فكيف عالجها ما يسمى الاتجاه العلاجي النفسي الإجتماعي؟!

ضد الإتجاه العقاقيري
نحو الدمج الاجتماعي

كما أشرنا في مواد سابقة، أنه على الرغم من سيادة التعريف البيولوجي، البحث للاضطرابات العقلية وسيادة العلاج العقاقيري، ومن خلفه احتكارات شركات الدواء العالمية، إلّا أن أعداد الذين يعانون من الفصام تحديداً زاد بشكل كبير، خصوصاً في ظل تعاظم الأزمة الاجتماعية المادية الروحية لعالَم الموت الرأسمالي المعمّم. مع تغييبٍ لاتجاهٍ يدعو إلى تغيير في علاقة الفرد بالواقع، وتغيير في الواقع نفسه. وعلى الرغم من وجود جانب إصلاحي في هذا الطرح، إلّا أنه يصب في نهاية المطاف بالمستوى الاجتماعي، اعترافاً منه، على عكس الاتجاه البيولوجي، بسيادة العامل الاجتماعي. ومثال على هذا الطرح: هو نموذج الدمج الاجتماعي للفرد بالمجتمع، واحتضانه الاجتماعي، بدل منطق المصحات المغلقة، التي تعامل الفصاميين على أنهم خرجوا من صلاحيتهم الاجتماعية، ومطلوب عزلهم قدر الإمكان مع علاجهم بالعقاقير المنشطة أو المثبِّطة. أي: إعادة إسناد وظائف اجتماعية إليهم، وتعزيز علاقتهم المقطوعة بالواقع.

نموذج من هذا الاتجاه

يُعتَبر ريتشارك وورنر رائداً في مجال الطب العقلي الاجتماعي. هو بريطاني المولد، في ثلاثينات القرن الماضي، في أسرة «متوسطة في طور انحدارها الطبقي» كما يصفها هو. والداه جيدا التّعلم، تعمل أمه «القارئة واسعة الاطلاع» في المزارع والفنادق بشكل أساس، ووالده عمل أساساً في مصنع للطيران. وزوجته إيرلندية المنشأ. عمل بين إنكلترا، واسكوتلندا، وكندا والولايات المتحدة. له عدّة مؤلفات، منها: «التعافي من الفصام، الطب العقلي والاقتصاد السياسي» (ط.1: 1985؛ ط.3: 2005)، «بيئة الفصام» (2000)، «بديلاً عن المستشفيات للعلاج العقلي الحاد» (1995).

في ورقته البحثية «تغيير بيئة الفصام على المستوى الاجتماعي»، يعتبر وورنر أن بعض العوامل المؤثرة في الفصام هي عدم القدرة على العمل، والأسباب الاقتصادية التي تثبّط العمل، والتمييز ووصمة العار. ويخلص في الورقة إلى أن العمل يساعد على تخفيض «اغتراب الأفراد الذين يعانون الفصام» ويساعد على تعافيهم. ويطرح إذاً من الموقع الإصلاحي إدماج هؤلاء في بيئة عمل، لا عزلهم، ومحاربة أفكار التمييز الاجتماعي ضدهم، وضمناً عبر الإعلام والتربية والدعاية الصحية الرسمية الواسعة، وتأمين تمويل دور الدمج الاجتماعي.

ولتبيان دور العمل في التأثير الكبير على الفصام، يعتبر الكاتب حسب الإحصاءات: أن مرحلة الكساد العظيم مثلا عظّمت من ظاهرة الفصام، وارتفعت أعداد الطلبات الاستشفائية في الأزمات الاقتصادية الأخرى. والملفت حسب رأيهم هو أن نتائج الحالة الفصامية هي أفضل في «العالم الثالث» حيث شروط العمل أسهل لمن عانى من نوبات عقلية ويريد العودة للعمل. وهذه الإحصاءات مدعومة ببرامج الإدماج التي يعمل بها وورنر من بين آخرين مثله، حيث إن ممارسة العمل خفَّضت بشكل كبير ملامح الاضطراب العقلي الحاد.

ويعترف وورنر، الذي هو من مؤسسي الجمعية الدولية للعناية بالصحة العقلية ومقرّها كولورادو (الولايات المتحدة الأمريكية) في مقدمة كتابه «التعافي من الفصام، الطب العقلي والاقتصاد السياسي» أن النظرية التي يعتمدها هي النظرية المادية، والتي تقول بأن فهم أفكار الإنسان وسلوكه يكمن في فهم الظروف المادية للوجود البشري ووسائل الإنتاج. ويقول: بالفكرة المادية التاريخية، أن القيم والاتجاهات والإيديولوجيا هي في النهاية يتم تشكيلها عبر قوى الإنتاج وإعادة الإنتاج، والتكنولوجيا وشروط العمل والتحكم الاجتماعي. ولا يخرج الاضطراب العقلي عن هذا الكلام.

ويدعو وورنر إلى تجاوز البحث في «ديناميات العائلة» و«الموقع الاجتماعي الفردي» نحو البحث في الطابع العام للإنتاج الاجتماعي، الذي يربط بين العناصر المستقلة جميعها. وينبِّه وورنر، بأن هذا الاتجاه النظري غير معتمد في الميدان العلمي الذي يحاول هو الخوض فيه، في إشارة إلى الاتجاه السائد العقاقيري والبيولوجي- الجيني البحت. ولكنه يضيف: أنه لا يعتبر أن الظروف المادية تخلق الفصام بشكل ميكانيكي، بل هي تؤثر فيه وفي ملامحه ونتائجه، إلى جانب عوامل أخرى (يقصد هنا التمايزات النفسية الفردية والعائلية والحالة الاقتصادية- الاجتماعية). وهنا يظهر إلى حد ما نقص في طرح وورنر، حين يحاول إضافة «عناصر أخرى» إلى الظروف المادية! وكأنه توجد عناصر أخرى مضافة إلى شروط الوجود المادي!؟

دليل على التغييب

في مراجعة لكتب وورنر على الشبكة، وإذا ما لجأنا إلى موقع غوغل أكاديميا، المختص بالأوراق والكتب العلمية والمنشورات البحثية، نرى أن نسبة مَن ذكر منشورات وورنر في أوراقهم كمرجع هم قلة. فكتابه المذكور أعلاه (والمنشور منذ 4 عقود تقريباً) تم ذكره في 1265 مرجعاً فقط، وهذا رقم قليل نسبياً، إذا ما اعتبرنا أن وورنر نفسه في منشوراته ذكر مؤلفاته السابقة، وليس أحداً آخر. بينما هناك ورقته «تغيير بيئة الفصام» المنشورة عام 2003 لم يتم ذكرها كمرجع إلا 20 مرة. والمنشور «الفصام ليس مرضاً» (2004) ذكر فقط 48 مرة. أما كتاب «بيئة الفصام: الجديد في الممارسة، السياسة، والاتصال» (2003) لم يذكر إلّا 90 مرة. أما ورقة «الحد من الفصام، ما هو التدخل الآمن والفعّال» (2001) ذكر فقط 92 مرة... وكما يبدو أن التغييب هو سيد الموقف بما يتعلق بهذا الكاتب وهذا الاتجاه، باعتبار أن الرقم 1265 كأعلى رقم لذكر مؤلف لوورنر ليس كبيراً، نسبة لباحث يعتبر في المجال الأكاديمي من الأساسيين في ميدانه. فقد نجد أوراقاً علمية غير شاملة وسطحية إلى حد بعيد، تجاوز مجال اعتبارها كمرجع أكثر من 3 آلاف مرة، تلك التي نشرت منذ مدة لا تتجاوز السنوات الثلاث، لا الأربعة عقود كما في حالة وورنر.

مصادر التيار الاجتماعي في الطب العقلي

يعتبر وورنر نفسه أن مصدر هذا التيار في أوروبا جاء مدفوعاً بالحاجة إلى اليد العاملة في مرحلة النمو التي تلت الحرب العالمية الثانية، أما في الولايات المتحدة فقد جاء تعبيراً عن الحاجة لتخفيض الإنفاق الاستشفائي، وبالتالي، تقليل عدد الأسرّة في أقسام الأمراض العقلية. ونضيف هنا، ربطاً بالنهوض العالمي الثوري الحاصل، والذي أعطى وفرض طابعاً اجتماعياً إنسانياً (حقوق الإنسان وغيرها) على العالم، منذ منتصف القرن الماضي. وليس وورنر إلّا نموذجاً من هذا التيار المذكور.

السوفييت؟

ذكرنا سابقاً: أن العلماء السوفييت الأوائل (نذكر منهم لوريا وليونتييف) أعلام النظرية الثقافية التاريخية، كانوا قد وجدوا مبكراً جداً علاقة النشاط بتشكيل الوعي، ووظائفه، وهنا يظهر مباشرة، أن أي خلل يصيب هذا النشاط يؤدي إلى خلل في انعكاس الواقع، وفي اضطراب وظائف التفكير ووحدته، وما «العمل» الذي شدد عليه وورنر إلّا تعبيراً عن هذا النشاط في إعادة لدور العمل في خلق كل ثروة وكل حياة (وهنا الحياة العقلية والروحية). السوفييت؟ من هم هؤلاء في الحقل الأكاديمي الممسوخ؟! ولكن هناك عودة ضرورية إليهم اليوم كأعلى منصة علمية في القرن الماضي دون مبالغة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
994