غنى متخفٍّ وفقرٌ يسقطُ من السماء

غنى متخفٍّ وفقرٌ يسقطُ من السماء

التصقت صورة الغني في أذهان السوريين بشخصية «مالك بيك الجورابار» في مسلسل الفصول الأربعة، فخيال شريحة كبير منا لم يصل في رسم صورة الثري أبعد من رجل أعمال أنيق يملك معملاً لصنع الجوارب، وفيلا فخمة تضم مسبحاً.

 

لكن الأمر جزئياً لا يتعلق بالدراما أو الخيال الضحل للسواد الأعظم من الناس، بل بالتكتم الشديد الذي يلف حياة أغنى أغنياء سورية، كما لو أن هؤلاء لا يريدون لنا تشكيّل أي تصوّر بصري عن هيئاتهم وروتينهم اليومي وأنشطتهم. وبالطبع، لا يريدون أن تخطر لنا مقارنة عامة من حياتنا بساعة من حياتهم. 

أثرياء غير مرئيين

يفسر البعض «تخفّي أثرى الأثرياء»، ونقصد بهم الـ 1% الأكثر ثراءً في البلاد، بكون معظم هؤلاء في الأساس لا يعيشون في سورية بالرغم من أنهم يعتاشون منها. في المقابل تعيش القلة القليلة الباقية منهم في تجمعات خاصة تضم قصورهم ومنازلهم في منطقة يعفور، أو على مساحات محددة من طريق المطار سابقاً. بحيث يتم تشييد هذه التجمعات على غرار نمط سكن أثرياء أمريكا الذي يُعرف بالـ (Compound). ومن المثير للسخرية أن الوكيبيديا يعرّف منطقة يعفور باعتبارها بلدة في ريف دمشق تم فيها تصوير الجزأين السادس والسابع من باب الحارة، لكنها في الحقيقة العاصمة الأساسية للحياة السرية لأغنى أغنياء سورية. 

وإذا ما دخل بعض المتطفلين منا إلى الصفحات المخصصة لبيع العقارات والقصور في يعفور، سيلحظ أن معظم الإعلانات تغفل نشر صور فعلية للقصور والمباني هناك، وتكتفي بصورة مأخوذة من الإنترنت مع اعتذار عن إرسال أية صورة في رسائل خاصة، بل تستلزم من الشخص أخذ موعد والحضور بنفسه لمعاينة المباني. وفي تلك الصفحات ذاتها، قد يتوقف المرء عند إعلانات من قبيل «فرصتكم للشراء والثراء، لا تنتظر ثم تشتري، بل افعل العكس اشتر أولاً ثم انتظر لترى أموالك تتدفق». 

في حين يستوقف البعض ممن يزورون مصادفةً يعفور بنية سوق الاستهلاك الخاصة المتوفّرة في محيط تلك المنطقة؛ فهناك العديد من المحلات الضخمة المخصصة لتجهيزات المسابح والفيلات والشقق، وهي محلات تبيع منتجات «رفاهية الرفاهية» لمن يمتلكون ثمنها. 

يضمن كل هذا التكتم ومجال الحركة الضيّق والمحمي لأبناء هذه الشريحة عدم الاختلاط بما تبقى من الشعب، ويحميهم أيضاً من عيون المتلصصين. فحياة أغنياء سورية وما تبقى من فقرائها عوالم وجزر منفصلة أو خطوط متوازية لا تلتقي. 

كن صامتأً مثل ثري ألماني

يبدو «نهج التكتم» مكتسباً عند أغنى أغنياء سورية، فهو بصورة أو أخرى سرٌ من أسرار الصنعة. كما تظهر سلسلة وثائقيات أعدها التلفزيون الألماني (Dw) تحمل أسماء: «العالم السري لأثرى الأثرياء»، «اليخوت العملاقة: لعبة أصحاب المليارات» وأيضاً «عالم الأثرياء: صنع في ألمانيا». تظهر هذه الوثائقيات، أن أغنى أغنياء ألمانيا، وبعكس ما قد يظن المرء، يفضّلون أن ينسى العالم وجوههم، فهم لا يريدون الظهور في وسائل الإعلام، ويفضلون إغفال ذكرهم في القوائم السنوية لأغنى الأغنياء، وإن كان ذلك غير ممكن يكتفون بنشر الحد اليسير من المعلومات عنهم بأشد ما يمكن من الاقتضاب. تشير تلك الوثائقيات أيضاً إلى أن 45 عائلة ألمانية تملك ما يعادل ثروات عشرين مليون عائلة من الطبقة المتدنية في ألمانيا، وتؤكد بأن السرية أساس حياة هؤلاء؛ فهم ينفقون قدراً كبيراً من المال لضمان حمايتهم الشخصية. لكن المثير أن هذه الأفلام تُجيبنا ربما عن سؤالٍ يلتهم رأسنا: «ماذا يفعل الأغنياء بكل هذا المال؟» ليأتي الجواب بصورة أو أخرى: «يستثمرونه من أجل كسب المزيد من المال»؛ أموالٌ تتحول إلى شركات وأسهم وحسابات بنكية تتراكم جيلاً بعد جيل. فالأغنياء الألمان كما تظهرهم الوثائقيات محافظون ومقتصدون في مظهرهم، يجلس من يظهر منهم أمام الكاميرا بثياب رياضية في مكتبٍ أنيق وأمامه كأسٌ من الماء. 

استراق النظر لما يحصل «هناك» 

رغم كل هذا التكتم، بدأنا نرى في السنوات القليلة الماضية جيلاً جديداً من الأغنياء السوريين الذين أرادوا إزاحة الستار لكشف بعض جوانب حياتهم التي رضوا لنا أن نراها. أخذ ذلك شكل تسريبات إعلامية لمقاطع فيديو أو صور تنتشر وتثير الضجيج والصخب قبل أن تختفي ويتم إخفاؤها كما ظهرت. 

ومن تلك نذكر عرس «ألف ليلة وليلة» في اللاذقية الذي كلّف ما يقارب المليار ليرة سورية عام 2017، حيث تخصص جزءٌ كبير من المبلغ لإنشاء ديكورات خاصة للحفل، واستقدام مولدة ضخمة تكفي للفندق بحيث تم الاستغناء عن الكهرباء، إضافة إلى طائرة خاصة للتصوير، مع وجود حوالي 30 كاميرا أخرى موزعة على أرجاء الحفل. 

يرى بعض المتخصصين في الشأن الاقتصادي، أن حركات التباهي هذه غالباً ما تتم من قبل أحفاد الجيل الأول الذين ضاقوا ذرعاً بتكتم آبائهم وأجدادهم ويريدون المفاخرة بهواياتهم في جمع السيارات النادرة، أو شراء الأعمال الفنية القيّمة. أو أنها تحصل من قبل «الأغنياء الجدد» الذين أفرزتهم الحرب السورية، فهؤلاء كما يبدو لم يسمعوا النصيحة حول ضرورة التكتم، أو أنهم قرروا تجاهلها لأنهم ما زالوا غير مصدقين للمفاجآت السارة التي جلبتها الحياة لهم. وعلى اعتبار أن المرء يعيش مرة واحدة، و«الأموال قد تذهب كما أتت في طرفة عين»، لم يرد هؤلاء خسارة الفرصة باستعراض أرتال سياراتهم المرفهة أو قصورهم الجديدة.

 

في المحصلة، ورغم موجات الغضب التي تتبع كل مجموعة تسريبات جديدة لوثائق أو مظاهر من هذا النوع، لكن تأثيرها إيجابي، فهي تعيننا على الفهم والتذكّر واستيعاب أن المقدرات والحقوق التي تنقص هنا بيننا، تتكدس هناك. تفيد هذه الوثائق في إبقاء الغضب مشتعلاً، وإدراك كم اللاعدالة في توزيع الثروات. وتفيدنا أخيراً في فهم السبب الذي جعل الصراع الطبقي يسمى «صراعاً طبقياً» في المقام الأول، فالفقر كما يبدو لا يسقط من السماء.

معلومات إضافية

العدد رقم:
989
آخر تعديل على الإثنين, 26 تشرين1/أكتوير 2020 15:21