التنمية البشرية... قصة نجاح في بيع الوهم
قد يظن المرء بأن السنوات القليلة الماضية، بما فيها من جرعة واقعية، وأحداث قاسية، كانت كافية لكنس جميع الخطابات الرائجة حول التحفيّز الذاتي والبرمجة اللغوية العصبية. فأي شخصٍ منا لا بد أن يكون قد استنتج أن استراق النظر من نافذة ما في هذا العالم، فعلٌ كافٍ- رغم بساطته وبدهيته- للإدراك بأن ما يحصل خارج ذاته، وخارج نطاق إمكاناته وأحلامه، مهيمنٌ وطاغٍ وعنيف بصورة لا تحتمل. استراق النظر للمصائب التي تحدث في خارج كفيلٌ لإقناعه بالإقلاع عن عادة الوقوف أمام المرآة وتكرار عبارة: «تستطيع فعلها، تستطيع النجاح، أحب نفسك»، كما لو أن تلك تعويذة مجرّبة للنجاح. لكن لا، وكما يبدو دعاة التنمية الذاتية لا يملكون نوافذ في منازلهم.
خرافات ووصفات مجرّبة
يقوم مبدأ البرمجة اللغوية العصبية، وفق مريديه، على تغيير أفكارك السلبية المترسّخة في عقلك الباطن، واستبدالها بأفكار إيجابية محفّزة. فأنت عبر تركيز أفكارك الإيجابية تستطيع منع السماء من أن تمطر حينما لا تريد أن تبتل، وتتمكن من جعل الماء رائقاً في كأس زجاجية، إن كانت روحك «شفافة» أيضاً بدرجة كافية. ومن أجل جعل الآخرين يحبونك يكفي أن تتبع قاعدة المطابقة؛ أي: أن تقلّد حركات الشخص ونبرة صوته ولغته الجسدية، دون أن يفطن هو لذلك، بحيث يتماهى معك وتصبح دون أن يحس النموذج الذي يتوق كي يكونه.
يهتم هذا التيار أيضاً بكشف الستار عن عالم الأغنياء، والتسلل إلى عقولهم لمعرفة كيف يفكرون وماذا يفعلون على اعتبار أنك إذا قلدت الأغنياء ستصبح ذات يومٍ مثلهم. يمكن للقارئ الوقوع على مقال يحمل عنوان: «ماذا يقرأ الأثرياء؟» وتأتي الإجابة: «الروايات العاطفية، والقصص الخيالية ليست بالتأكيد ما يقرؤه الأثرياء، وإنما يقرؤون كتب القيادة، كتب التنمية الذاتية، السير الذاتية، النصائح الحياتية في مختلف المجالات، الأخبار والأحداث الجارية».
تتوالى الفيديوهات والمقالات التي تكشف أهم أسرار وعادات كلّ شخص ناجح، ومنها مثلاً: عدم اعتماده على مصدر واحد للدخل. للوهلة الأولى قد يصرخ القارئ: «وأخيراً لدي عادة مشتركة مع الأغنياء» فهو أيضاً قد يعمل استاذاً في المدرسة صباحاً وسائق تكسي ليلاً، لكن قبل أن يتسرع في أحلامه يستنتج أن فلاسفة التحفيز الذاتي يتحدثون عن مصادر دخل من نوعٍ مختلف، كفوائد القروض، وتأجير العقارات، وحقوق الملكية من المؤسسات الفكرية، أو الأسهم في الشركات. ومن النصائح التي لم تخطر على بال، الامتناع عن مراكمة الديون، عدم إظهار الغنى والامتناع عن مظاهر الإسراف كشراء السيارات الباهظة، إلى جانب التحلي بالصبر وهذا أمر لا تعرفه عزيزي الفقير، فأنت كما يبدو جاهلٌ بفنون الصبر.
ومن المقالات السامة التي قد تقرؤها أيضاً ضمن ذات المجال، تلك التي تنصحك بالابتعاد عن الأشخاص الملقبين بـ «مصّاصي الدماء العاطفيين» أو الأشخاص السلبيين الذين يمتصون طاقتك ويعيقونك عن تحقيق أحلامك، وقد تتفاجأ من طول القائمة التي تتضمن الأشخاص النرجسيين، والمسيطرين، والثرثارين، وملوك الدراما، والمنتقدين لسلوكك، وحتى أولئك الذين يتظاهرون بالبراءة أو بكونهم ضحايا. وبالطبع لا يبخل كاتب المقال بشرح آلية التعامل الصحيحة مع كل نمط من هؤلاء بوصفات نافعة ومجرّبة، تتضمن عادة تجاهلهم وتقليص الاحتكاك بهم، وعدم الاستماع لما يريدون قوله. وعلى الرغم من أن المقال يضيء على صفات وسلوكيات لا بد أن تكون مزعجة ومؤثرة، لكن الخطير فيه هو: التصنيف السطحي لأنماط الشخصيات من جهة، وحث الناس على الابتعاد عن أي شخص قد «يعكنن عليهم حياتهم» أو يصدّر لهم مشاعر سلبية بقصد أو غير قصد، فكل ما يهم في التحفيز الذاتي، «الذات» وكل من يثني عليها ويدللها.
جماهيرية التنمية البشرية
بالرغم من أن الناجحين الأغنياء لا يشغلون نفسهم بقراءة القصص الخرافية، لكن خبراء التنمية البشرية يريدون لك العيش في حكاية من هذا النوع وتصديقها وتكرارها وقصّها على الآخرين، إلى ما لا نهاية. في كتابه «فن اللامبالاة»، يقدم مارك مانسون نقداً لاذعاً لتيار التنمية البشرية الذي يلاحق الناس أينما تحركوا مطالباً إياهم بأن يظلوا سعداء وإيجابيين وطموحين. ويقول رداً على ذلك: «إن الرغبة في المزيد من التجارب الإيجابية تجربة سلبية بحد ذاتها، والمفارقة، أن قبول المرء تجاربه السلبية هي تجربة إيجابية في حد ذاتها». ويضيف مانسون: بأنه كلما سعيت ليكون إحساسك أفضل طوال الوقت كلما قل شعورك بالرضا. ولذلك يرى المؤلف: أن الغرض من كتابه تعليم الناس كيف تخسر أو كيف تتصالح مع الخسارات، دون أن تشكل الخسارة مصدر قلقٍ كبير بالنسبة لها. ويضيف أيضاً: بأننا في الحقيقية نعيش دائماً على قدرٍ من عدم الرضا لأن من شأن الكائن غير الراضي وغير الآمن أن يبذل المزيد من الجهد ويحارب من أجل بقائه، فالألم بصورة أو أخرى وسيلة لدفع الجسد للفعل.
سوق التنمية الذاتية
في الوقت الذي تجد فيه دور النشر صعوبات في جذب القراء للاهتمام بالشعر والكتب النقدية، نرى منشورات التنمية البشرية وحركة الترجمة المرتبطة بها في تزايد مستمر، وكذلك الأمر فيما يتعلق بعدد المشاهدات الضخمة لمدربي التنمية البشرية على اليوتيوب. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن سوق التنمية الذاتية وصل عام 2018 في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 11 مليار دولار، بحيث تزايدت نسبة أرباح هذا القطاع بمعدل 2% عمّا كان عام 2016. ويتضمن ذلك مجالات التدريبات العملية والكتب المكتوبة والصوتية، وغير ذلك من محتويات إعلامية ومؤلفات تصب في ذات المجال.
يريد الناس أن يصدقوا بأنهم قد يمتلكون زمام الحل لمشكلاتهم، هم يريدون الاقتناع بأن تغيير عقلياتهم وأنماط تفكيرهم كافٍ لتغيير العالم من حولهم، وهذا ما يبرر ربما شعبية تيار التنمية البشرية. فروّادها ومنظروها يتغذّون على أحلام الناس الفقراء، الأقل حظاً، الأكثر حزناً، والأقل ثقةً بالنفس. لذلك يبدو أن هؤلاء، بعد كل اعتبار، يمتلكون نوافذ في منازلهم، ويدركون تماماً صورة العالم في الخارج، وهذا ما يجعلهم الأقدر على معرفة «البضاعة الرائجة» التي يمكن بيعها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 988