السمكة الكبيرة في الوعاء الصغير

السمكة الكبيرة في الوعاء الصغير

خلقت الحرب السورية بأحداثها وتطوراتها جداراً سميكاً قسم عالم السوريين إلى نصفين؛ الداخل والخارج، هنا وهناك، من غادروا أو من بقوا. ورغم أن عشر سنين قد مرت منذ بدء الأزمة إلا أن تفاعلات هذا الانقسام ما تزال حاضرة في يوميات السوريين وحياتهم، التي تلقت ضربةً قاسية هشّمت الشبكات الاجتماعية، وكرّست حالة من الاغتراب بين الجميع؛ اغتراب من هجروا أوطانهم واغتراب من ظلّوا فيها. 

قياس جودتك تبعاً لموقعك الجغرافي

كرّس تناقض (داخل/خارج) الكثير من التعميمات الخاطئة والانقسامات الثانوية بين شرائح واسعة من السوريين. اشتمل بعضها على ترسيخ القناعة بأن كل شخص مهاجر هو بالضرورة أغنى، أكثر سعادة، وأشد استرخاءً، وكل شخص في الداخل هو حتماً منكوبٌ ومفلسٌ ويائسٌ وأقل حظاً. التعميمات ذاتها انتقلت لقطاعات تتعلق بالمهنة والإنجاز الشخصي، بحيث يُبتُّ مسبقاً بأن كل من هو في الخارج يتلقى فرص عملٍ أفضل، وبالتالي مستقبله المهني أشد إشراقاً من الذي بقي على المقلب الثاني ليتعلم ويعمل في الداخل السوري. وبالطبع كان أشد تلك التعميمات خطراً السياسية منها، والتي وزّعت درجات الوطنية والانتماء تبعاً للموقع الجغرافي. ولذلك، وقبل المضي قدماً في هذا المقال، لا بد من التأكيد بأنه ليست هناك كتلة واحدة متجانسة تسمى «جماعة الخارج» أو «جماعة الداخل» فهناك ألف اعتبار وسؤال ينبغي طرحه حول كل فرد وجد في أية بقعة جغرافية كانت؛ لماذا بقي، لماذا رحل، بناءً على أية اعتبارات ومن أجل ماذا؟ وكيف يتفاعل الآن في المكان الذي وُجد فيه؟

السمكة الكبيرة في الحوض الصغير

يتجسد خوف شريحة واسعة من الأفراد المقيمين في سورية، وتحديداً المشتغلين في المجال الثقافي والفكري بأن يكونوا مجرد «أسماك كبيرة في حوض الماء الصغير»، العبارة التي تعني بأن تقديرهم لذاتهم وحكمهم على عملهم وتطورهم المهني والفكري يتأثر بالبقعة الجغرافية الضيقة التي وجدوا أنفسهم يتحركون ضمنها. فالبعض من هؤلاء يواجهون قلقاً حقيقياً يرتبط بعجزهم عن تقدير إنجازاتهم أو مواهبهم، لأنهم يخافون بأن يكون تفوقهم مرهوناً بشح البيئة التي يتحركون ضمنها، والتي تحولهم إلى نجومٍ في مجتمعاتهم الضيقة، لأنهم الخيار الوحيد المتاح. في المقابل، هناك على المقلب الآخر شرائح تستمتع حقاً بكونها السمكة الأكبر في الوعاء الصغير لأن ذلك أعطاها امتيازات لم تحلم بها، ومنحها شكلاً من أشكال الشهرة والاسترخاء ضمن مجتمعٍ ضيق يسهل على المرء فيه شق طريقه وتمييز نفسه ضمنه.
وفي الجزء الآخر من العالم، هناك أيضاً من المسافرين من يُرجع تفرّده للمدن التي وجد نفسه فيها، دون أن يبذل جهداً ليكون متميزاً حقاً ضمنها. يشعر البعض من هؤلاء بأنهم استثنائيون فقط لأنهم يجلسون الآن في شقة في باريس، حتى لو كانوا يتفاعلون مع محيطهم الجديد بالحد الأدنى. هؤلاء تحديداً يظنون بأنهم هجروا إلى الأبد «الوعاء الصغير» رغم أنهم لم يبرحوه لحظة واحدة.

التغلغل عامودياً في المكان

يستلزم الإبداع والتطوّر ربما، درجة كبيرة من التنوّع واستكشاف ثقافات أخرى، لكنه أيضاً يستلزم وبالدرجة ذاتها التغلغل عميقاً في مكانٍ واحد وتشريحه وفهمه والتفاعل معه. وبهذا المعنى قد يشعر بعض الفنانين المشتغلين في الشأن الثقافي أن وجودهم في هذه البقعة الجغرافية- الداخل السوري- ضروريٌ لهم قبل أن يكون ضرورياً لها.
فهي تحفّز داخلهم أسئلةً ومشاعر وذكريات، هي تغضبهم، تستفزهم، تحزنهم، لكن الأهم: أنهم معنيّون بها وبما يحصل فيها إلى أبعد حد. وبالتالي، هم يأملون بأن تحدث كلماتهم وعروضهم وأفلامهم ولوحاتهم فرقاً أو أثراً في هذا المكان تحديداً لأنه ينتظرها. ومجدداً، لا يعني ذلك أن التمييز يأتي من الشح، فالعمل الرديء سيطويه النسيان أينما كان، ولن يشفع له ضعفه أنه أُنتج في ظرفٍ صعب، أو بيئة مُغلقة.
وعلى المقلب الآخر، نرى بأن «المكان المهجور» أو الوطن الأم، ما زال حاضراً في حياة من تركوه، بحيث يكون في أحيانٍ كثيرة محور أعمالهم الفنية والإعلامية. فهناك عشرات قنوات اليوتيوب والكتب التي تنتج مثلاً عن الطعام السوري، وعشرات المعارض وعروض الأداء الحركي المستقاة من معاناة السوريين أثناء الحرب السورية، إلى جانب مؤلفات ومشاريع توثيقية تعنى بجوانب محددة من الثقافة السورية. ومجدداً لا توضع هذه الأعمال جميعها في الميزان نفسه؛ فهي تختلف من حيث درجات عمقها ودوافع إنتاجها والرسائل التي تحملها. فبعض الفنانين السوريين يحاولون من خلال إنتاجاتهم القول بأن المكان الذي تركوه لا يبارحهم وأنهم ما زالوا معنيين بما يحصل فيه، أو بالأحرى، علاقتهم به لا تنتفي بغيابهم عنه، وإن كانت تكتسب أبعاداً جديدة بتأثير التفاعل مع أماكن جديدة. لكن على المقلب الآخر هناك أيضاً المتكسبون، الذين يلعبون دور المستشرقين حول بلدانهم نفسها، ويعيدون قص الحكاية التي يريد العالم سماعها عن المكان الذي جاؤوا منه، دون تعميقها. فهؤلاء سعيدون بأنهم خلفوا وراءهم ذلك «المكان البغيض» بنظرهم، لكنهم عاجزون عن خلق عمل فني لا يكون هو محوره، أو خائفون من ألّا يكون أحدٌ مهتماً بعملهم إذا خلا من إشارات مرجعية ترتبط به.

الحق في الحركة

قد لا يكتمل العمل الفكري والفني أو يتطوّر دون أن يمتلك الفنان فرصة في السفر والتفاعل مع ثقافات أخرى، وبهذا المعنى؛ يشتاق العديد من الشباب السوريين لخوض تجارب جديدة يكون فيها «السفر خفيفاً» أي: غير محملٍ بالدراما المرتبطة بالفرار من أجل الحفاظ على الحياة من بقعة تعد من أخطر بقاع العالم. يشتاق الكثير من الشباب السفر لأن لهم الحق في الحركة ورؤية أكبر قدر من هذا العالم دون أن يعني ذلك اقتلاعهم من جذورهم، أو مغادرة بلادهم دون أن يعلموا بأن كانوا سيرونها مرةً أخرى.
لكن وإن لم تحصل، هذه الرحلة، لا يعني ذلك بأن أي وقت في «الداخل» هو وقتٌ ضائعٌ مهدور، وأي عمل هو أقل قيمة فقط لأنه يحصل بعيداً عن بقعة الضوء. ففي المحصلة، الأمر يتعلق بالأصالة، ودرجة الصدق في العلاقة مع الذات، والمكان والنتاج الذي سيخرج من كل ذلك.

معلومات إضافية

العدد رقم:
987
آخر تعديل على الإثنين, 12 تشرين1/أكتوير 2020 02:32