البشريّة تنتحر: القاتل الرأسمالي «المحايد»
محمد المعوش محمد المعوش

البشريّة تنتحر: القاتل الرأسمالي «المحايد»

إن وصول المجتمع الرأسمالي إلى حدوده التاريخية يعني أن مستويات الوجود الاجتماعي المادية والمعنوي مأزومة في قدرتها على إعادة التجدد على الأرضية ذاتها. وإذا كان تحليل الأزمة الاقتصادية يحتاج للمادة الاقتصادية والنقدية والمالية التي تكثفت في مواد سابقة في قاسيون، ضمن تحليل قانون ميل معدل الربح إلى الإنخفاض، والذي وصل في المرحلة الراهنة إلى مستويات الصفر، فإن تحليل الأزمة المعنوية الروحية يتطلب دعماً من المادة الاجتماعية، التي تعبّر عن تدمير قوة العمل الحاصلة من قبل نمط الحياة الرأسمالي عبر تدمير الإطار العقلي الذي عبره تتجدد قوة العمل البشرية، وصولاً إلى تدمير الإطار الجسدي لهذه القوة. وهنا نطل على تطور بيانات الانتحار والمرض العقلي عالمياً، فـ«السيف أصدق إنباء من الكتب» كما يقول أبو تمام.

تدمير قوة العمل عبر علاقة مادي- معنوي

أشرنا في مواد سابقة أن أزمة نمط الحياة في الرأسمالية المتمثلة في الاغتراب تدفع إلى انهيار بنية العقل عبر سلب الإنسان وجوده الإنساني، عبر سلبه أهدافه ومعاني حياته، وتحويله إلى كائن استهلاكي لا علاقة ضرورية بينه وبين المجتمع. هذا الانهيار يمكن أن يسلك اتجاهين مختلفين، ومتداخلين غالباً: الانهيار العقلي المتمثل بالمرض العقلي الذي يشكل الفصام أقصى أشكاله كتعبير عن انقطاع الصلة مع المجتمع، وهناك الانتحار الذي يعبّر عن وصول العقل إلى خلاصات انغلاق أفق الحياة ولا جدواها، وعدم القدرة على تحمل مصاعبها المادية والمعنوية.

الانتحار بالأرقام

تذكُر منظّمة الصحة العالمية في مادتها المنشورة في العام 2014 والمعنونة «منع الانتحار، ضرورة عالميّة»، أن الانتحار يحصد سنوياً أكثر من 800 ألف إنسان حول العالم! مع اعتراف المنظمة أن هذا الرقم ليس دقيقاً بسبب عدم وجود آلية لإحصاء الضحايا، وخصوصاً في ظل عدم التبليغ الفعلي عن حالات الانتحار في العديد من البلدان، مضافاً إليهم نسبة أكبر ممن يحاولون الانتحار. وعلى الرغم من تباين نسب الانتحار حسب الجنس والعمر والمستوى المعيشي بين الدول، إلا أن الانتحار في 2017 يشكل 1,4% من حالات الموت عالمياً. ليس رقماً صغيراً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تعدُّد أسباب الموت التي تضعها المنظمة في الحسبان، بدءاً من أمراض القلب، والجهاز التنفسي، ومرض نقص المناعة «إيدز»، وأمراض الكلى، الأمراض الهضمية، وصولاً إلى الكوارث الطبيعية، والحروب، جرائم القتل، وحوادث السير، وإفراط استخدام المخدرات، والحرائق، وارتفاع حرارة الطقس... وتقدر الأرقام بأن هناك شخص يموت من جراء الانتحار كل 40 ثانية.
إن 75% من حالات الانتحار هي في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، والباقي في الدول مرتفعة الدخل. وبينما تحصد الفئة العمرية بين الـ45 والـ60 عاماً أعلى نسبة في الدول مرتفعة الدخل، ترتفع النسبة في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل في الفئة العمرية بين الـ15 والـ25 عاماً، وهذا بحد ذاته مؤشر على عمق الأزمة في الدول الأفقر والانغلاق المبكر للأفق في هذه المجتمعات، وتعاظم الأزمات فيها.
وإذا ما أردنا المقارنة بين بعض الدول، إن نسبة الانتحار في الولايات المتحدة هي ثالث أعلى نسبة في الأمريكيتين حيث تشكل النسبة فيها حوالي 13 لكل 100 ألف شخص، بينما في كندا هي حوالي 11 حالة (في تقارب مع الأرجنتين وتشيلي)، وتتقدم غويان بـ 26 حالة، والأوروغواي بـ 17 حالة. في أستراليا إن النسبة هي 11 لكل 100 ألف. أما في أوروبا الغربية والشمالية، تحتل فرنسا وفندلندا والسويد النسبة الأعلى بـ12 حالة، وفي أوروبا الشرقية تحتل أوكرانيا(شبيهة بروسيا) النسبة الأعلى بـ 25 حالة، وبيلاروسيا بـ 19 حالة، بينما النسبة الأعلى عالمياً تمثلها غرينلاد بـ51 حالة لكل 100 ألف من السكان. أما في إفريقيا تتقدم لاسوتو بـ32 حالة، تليها زيمبابوي بـ 27 حالة. النسبة ترتفع في الهند إلى 16 حالة، بينما هي في الصين7 حالات لكل 100 ألف. وفي الدول العربية فإن المتوسط هو 5 حالات لكل 100 ألف. وفي أقصى الشرق تشكل كوريا الجنوبية (20 حالة) واليابان (15 حالة) النسبة الأعلى.
والغريب في الإحصاءات العالمية أن نسبة الانتحار عالمياً انخفضت بحوالي 5 حالات لكل 100 ألف من 15 حالة في 1990 إلى 10 حالات لكل 100 ألف في 2017، قطعتها فترة صعود عالمي في وسط التسعينات إلى 16 حالة كمتوسط عالمي. هذه الغرابة تزول إذا ما اعتبرنا أن موجات الانتحار تأتي تالية لمرحلة الأزمة ولا تحصل مباشرة فيها، ولكن هناك تفسير آخر، ألا وهو أن نسبة التحسن في مستوى المعيشة ارتفع في العديد من الدول الأكبر من حيث عدد السكان، ومنها: الصين والهند وروسيا وبنغلاديش. فهذه النسبة انخفضت في الصين (الأولى عالمياً من حيث عدد السكان) من 20 حالة في التسعينات إلى 7 حالات، والهند (الثانية عالمياً) من حالة 25 إلى 20 حالة، وبنغلاديش(الثامنة عالمياً) من 10 حالات إلى 6 حالات لكل 100 ألف، وفي روسيا (التاسعة عالمياً) انخفضت من 50 حالة (في المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي) إلى 25 حالة. وهذا ما يعوض أي ارتفاع لنسب الانتحار في باقي دول العالم، خصوصاً أن الدول الأخرى الأكبر من حيث عدد السكان حافظت فيها نسب الانتحار على النسبة ذاتها كما في إندونيسيا (الرابعة عالمياً من حيث عدد السكان) ونيجيريا (السادسة عالمياً) والبرازيل (السابعة عالمياً). ومقارنة بهذه الدول الأكبر سكاناً التي انخفضت فيها نسبة الانتحار، ارتفعت نسبة الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية (الثالثة عالمياً من حيث عدد السكان) من 12 حالة في التسعينات إلى 13 حالة.
أما من حيث طريقة الانتحار فإن السلاح الناري هو الأعلى عالمياً (8%) نسبة إلى باقي الطرق، حيث تأتي غرينلاد والولايات المتحدة الأمريكية في المقدمة في استخدام هذه الطريقة (60%) ما يعبر عن نسبة استخدام السلاح في هذا المجتمع، أما السبب الثاني عالمياً فهو المواد المسمِّمة، حيث قُدِّر عدد المنتحرين خلال الـ50 سنة الأخيرة بسبب التسمم بـ14 مليون إنسان!

محاولات بائسة

على الرغم أن المنظمة تعتبر أن أسباب الانتحار تتركز في اعتلال الصحة العقلية، والتراجع الاقتصادي، ونسب الطلاق والتفكك الاجتماعي، واستخدام الكحول.. إلا أنها لا تشير إلى ارتباط هذه الأسباب عميقاً بالبنية الرأسمالية، فتتحول خطّتها لتخفيض هذه النسبة عبر ما سمي بخطة التدخّل و«الخط الساخن» الخاص إلى «رفع عتب». فلا يبدو أن هناك قدرة لهذه المنظمة على منع الكوارث الاقتصادية، وما تسببه من ويلات إجتماعية، ولا القدرة على ملء الفراغ الروحي الذي تعاني منه البشرية.

أرقامٌ أعلى

إذا ما أردنا تجاوز الفصل القصري بين الجسدي والعقلي، فإن دمج الانتحار مع الوفاة جراء أمراض القلب (حوالي 18 مليون إنسان) والسرطان (حوالي 10 مليون) كتعبير جسدي مباشر عن الأزمة الفردية، فإن عدد المتوفين عالمياً بسبب الارتباط المباشر بنمط الحياة الرأسمالي يبلغ سنوياً حوالي 30 مليون إنسان.
إن وباء كوفيد-19 بلغ عدد ضحاياه لحد الآن 24% من هذا الرقم. وإذا ما جمعنا الأعداد لـ5 سنوات متتالية، فإن الرقم (150 مليون إنسان) هو مرّتان ونصف أعلى من ضحايا الحرب العالمية الثانية وسنواتها الخمس. ويصبح ضحايا الانفجار النووي في هيروشيما وناكازاكي (190 ألف إنسان) بسيطاً.
إن الأزمة المعنوية- الجسدية تقضي عملياً على البشرية أكثر من الحروب. إنها «جريمةٌ محايدة» يتحملها بالكامل نظام الإبادة الرأسمالي و«ما صاغوه فيها من زُخرُفٍ ومن كذب» كما يستكمل أبو تمام قصيدته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
982
آخر تعديل على الإثنين, 07 أيلول/سبتمبر 2020 12:50