حينما تغط دمشق في النوم

حينما تغط دمشق في النوم

يحدث أحياناً أن أكون عائدةً في وقتٍ متأخر إلى البيت، أطلب سيارة أجرة من مكتبٍ موثوق للتكسي، كي لا أشغل بالي بسيناريوهات مرعبة لحوادث اختطاف قد تحصل. كثيراً ما يصدف أن يكون السائق في مثل عمري أو أكبر قليلاً، وبالتالي يفضّل رفع صوت الموسيقى، يسرع في ممرات وشوارع دمشق. تجتاز السيارة شارع بغداد وتمر بجسر الثورة الذي يبدو مهجوراً، تُرى فيه بقايا آثار الازدحام النهاري، كأكياس يُطيرها الهواء تدور حول نفسها في دوامات غير منتهية، وبقايا خضراوات ستتعفن غداً تحت الشمس. تُكملُ السيّارة مشيها، الشوارع مُضاءة بحيث أستطيع تأمل الهوية الجديدة للمكان وهو خالٍ من البشر، ينتابني نوعٌ من الأسى. كم هو مُرهَقٌ هذا المكان، كما لو أنه استنزف قواه تماماً. في ساحة الأمويين جنودٌ يسهرون على الحاجز، تعبر السيارة بهم ونتبادل جميعنا نظرات خاطفة كما لو أننا نتشارك سراً حول الهيئة الليلية للمدينة.

وتماماً في اللحظة الذي تتسلق فيها السيارة جبل قاسيون كي تصل إلى دوّار مشفى الشامي، تعبر أسفل راية ضخمة خفّاقة للبلاد، رفعت في حديقة تشرين كي تبدو مطلةً على سفح الجبل. أحس بالتأثر بصورة غامضة يصعب وصفها كما لو أن قلبي ينكمش في داخلي. كان الناس أذكياء حينما خطر لهم اختراع فكرة الرايات وتحويلها إلى رموز. هناك سحرٌ ما يتعلق بحركة القماش الذي تلعب به الريح. وكلما كانت الراية أعلى وأكبر زاد التأثير الذي تتركه في النفس. في تلك اللحظات بالذات ينتابني شعورٌ خاص بالتملّك للمكان، كما لو أنني أنسى لعدة ثوانٍ كل تلك المعارك والسجالات التي حصلت حول العَلَم، وأنسى كل «الصخب والعنف» الذي ضجّت به السنوات الماضية. «أنا هنا والآن» أردد في سري، كما لو أنني أريد أن أثبّتَ هذه اللحظة في داخلي، واستعيد صلة فقدتها مع المكان. تبدو دمشق ليلاً أشبه بطفلٍ نائم ظلّ يشاغب طوال النهار، يبكي، يصرخ، ينشر ألعابه في كل مكان محيلاً الغرفة إلى دمار، يلتصق بثوب أمه بحيث لا تستطيع إلتقاط أنفاسها. لكنه وحينما ينام يبدو مسالماً غارقاً في أحلامٍ تَخُصّه، يسمح للعيون التي تراه بأن تأخذ وقتها في تأمله، وملاحظة التغيرات التي طرأت عليه، ولم يكن بالإمكان رصدها خلال رحلة صخبه اليومي. تلك الثواني القليلة التي تعبر فيها السيارة أسفل العلم الكبير تعطيني هذا الاحساس بالسطوة على المكان وبأنه يخصني، أو أنني دفعت الكثير من الأثمان، التي أكاد أدركها أو لا أدركها كي أكون فيه. لا يمتلك العلم هنا دلالات سياسية، على الأقل بالنسبة لي، يعود رمزاً سابقاً للمعارك والسجالات والانقسامات، يعود رمزاً لصلة تخصني مع المكان الذي ولدت فيه. من المحزن ألّا تشعر بأنك تمتلك مكاناً إلا بعد أن يغُط في النوم. هو ذات الإحساس الذي قد يصيبك إذا ما تجوّلتَ في أحياء مدينة مغطاة بالثلج، قرر سكانها الاختباء من البرد داخل بيوتهم. في ذلك الوقت أيضاً تُحسُّ بأن حركتك تكتسبُ بُعداً جديداً، وأن آثار أقدامك الذي تركتها على الثلج أشبه بعلامة حفرها عبورك من هنا. كان ينبغي أن يكون الأمر معكوساً تماماً؛ أن نمتلك مدننا وهي تضج بالحياة في يومٍ صاخب. لكننا غالباً ما نشعر بأننا غير مرئيين في أيامٍ مثل هذه، ويكون الأمر أشبه بمعركة لحجز مكانٍ في الباص، أو مساومة الباعة، والوصول على الوقت المحدد إلى العمل. يكون المرء مُنشغلاً بألّا يتم سحقه، إغضابه، حصره، إهانته، وجلّ ما يريده أن يصل سالماً إلى بيت يختبئ فيه.
أتذكر أنني في تلك الرحلة الليلية وصولاً إلى البيت شعرت بنوعٍ من السعادة، لأنني أحسست بشيء ما تجاه المدينة في لحظة من الزمان. وهذا أمرٌ لم يعد يحصل كثيراً، فالحياة هنا لا تتيح الوقت كي يختبر المرء مشاعره أو يتأملها، أو ربما يكون الأمر معكوساً؛ فالمشاعر السلبية المرتبطة بضغوط الحياة والغضب، والخوف مما سيأتي، والحزن على ما ذهب، لا تترك مجالاً لبناء صلة من أي نوع مع هذا الحيّز. لكن ليل دمشق يستطيع التحايل على المرء ويأخذه على حين غرة، يبدو الهواء فيها منعشاً، كما لو أنك تستطيع أخيراً أخذ نفسٍ عميق، ستحتاجه غداً حينما يعاودك الشعور بالاختناق.
في ليالٍ أخرى على مدار السنوات السابقة، بتّ انتظر السيارة كل مرة أن تقترب حتى أتأمل تلك الراية، كما لو أن تلك اللحظات تخصنا وحدنا أنا وهي. تمشي السيارة ببطءٍ تحت أعمدة الإنارة في الشارع، تأخذ الطريق الصاعد نحو الساحة، وأنا أفتح الشباك وأهمس لنفسي «أنا هنا الآن».

معلومات إضافية

العدد رقم:
982
آخر تعديل على الإثنين, 07 أيلول/سبتمبر 2020 12:52