الصدمة التاريخية.. انهيار العقل.. وغرامشي
إن ترابط المهام التاريخية يعطي المرحلة تميّزها النوعي، حتى نكاد نقول: إن الصراع من أجل التغيير، عليه أن يدمج في مسيرته مختلف هذه المهام، بمعزل عن التقدم التكتيكي لإحداها عن الأخرى. ومن هذه المهام: التقاط الانهيار الحاصل على مستوى العقل الإنساني تاريخياً. فالقوى التقدمية بالمعنى التاريخي عليها أن تفتح أفق العالم الجديد، تبني ملامحه، وتلوّن المشهد القادم، فتلك عملية لا تتم بعفوية. ومع غرامشي نقول: إن البناء الفوقي المرتبط بقضية تشكيل الوعي لم يتم، ولن يتم دون الدور الفاعل للجهاز السياسي القابض، فكيف إذا كان هذا التشكيل هو مقدمة مسبقة في وقف الانهيار وتحصين عملية التغيير.
صدمة العقل
مجدداً، إن الإنهيار الحاصل في نمط الحياة الذي ساد طوال العقود الماضية له جوانب متعددة، والتي لا تقل أهميّة عن المادي المباشر، المتعلق بالأمن والغذاء والصحة، بل هي شكل آخر من تمظهُر هذا المادي. إنها مسألة انهيار العقل الإنساني الذي يعكس انهيار السردية التي أسست له ولتماسكه كعقل ليبرالي محكوم بأهداف ومسار محدد، كتعبير عن القصة التي أنتجها النظام الرأسمالي الليبرالي. وهذا له تبعاته الاجتماعية القاسية بدورها، والتي ستزداد حدة حسب طول مرحلة الصراع والانتقال. والتي تفرض بدورها ملامح السياسة الثقافية والإعلامية والاجتماعية البديلة في مرحلة التغيير نفسها.
إن انهيار الأهداف (التي هي في نهاية المطاف أفق حركة الفكر والوعي الفردي-الجماعي) التي أسس لها المجتمع الليبرالي تؤدي إلى تعطُّل بنية النشاط العقلي الإنساني. ولكون هذه البنية هي القاعدة الأساسية لتماسك هذ العقل، فإن انهيارها سيعني انهيار هذا العقل. وانهيار العقل يعني الجانب المعنوي والعقلي من الفوضى المستدامة، والتي يمثلها سياسياً اليوم انهيار جهاز الدولة المركزي الذي يضبط تناقضات المجتمع، ولكن يحافظ على تماسكه في آن.
التناقض وحلّه
هذا العقل الذي أصيب اليوم بصدمة هو بالأساس عقل متناقض. فأهدافه والتعبير الممارسي عنه يتناقض مع حاجاته الحقيقية. وانهيار الأهداف «الليبرالي» هو انهيار أحد أطراف هذا التناقض تحت وقع الضرورة. ولهذا إن المطلوب لمنع انهيار البنية بشكل سلبي هو مستويان. الأول: هو تحويل انهيار طرف التناقض هذا (الأهداف) إلى عملية واعية، أي وضعها في سياقها التاريخي، ربطاً بالأزمة العميقة للرأسمالية. وهذا ما يفتح المسار لإنقاذ طرف التناقض الآخر من انهياره كذلك، أي الحاجات، وتأمين المسار الحقيقي للتعبير عنها من خلال الأهداف غير الوهمية النابعة من أدوار جديدة ونمط حياة ضروري. هذا هو المستوى الثاني المطلوب لتأمين تجاوز إيجابي لعلاقة التناقض التي تأسست طوال المرحلة الليبرالية.
غرامشي و«الخلق الواعي»
لتحقيق مهمة تجاوز هذا التناقض، هناك مستويات متدرجة ثقافية وتربوية وعلمية وسياسية وتنظيمية... طوال عملية التغيير، بدءاً من التأسيس التوعوي التربوي حول طبيعة هذا الانتقال الذي يحصل في صلب الانتقال الاجتماعي التاريخي (الذي هو المستوى الأول المشار إليه أعلاه)، وصولاً إلى إرساء العلاقات الاجتماعية الجديدة التي تحقق القسم المكتمل من حل هذا التناقض (الذي هو الجانب العملي من المستوى الثاني).
في هذا السياق، يعتبر غرامشي أنه: «ينبغي في الواقع، أن ننظر إلى الدولة كـ ‘مربٍّ’ Educator طالما أنها تتجه إلى خلق نمط أو مستوى جديد من الحضارة. لأن التأثير أساساً في القوى الاقتصادية، وإعادة تنظيم الإنتاج الاقتصادي وتطويره، أي خلق بنية جديدة، لا يعني أن تترك العوامل البنيوية الفوقية وشأنها لتنشأ اعتباطاً وتتطور تلقائياً».
ويكمل غرامشي: «فالدولة في هذا الميدان أيضاً، أداة لـ ‘الترشيد’ Rationalisation وللتعجيل Acceleration.»
وإذا أخذنا مقولات غرامشي حول الهيمنة، فإن استباق دور الدولة هذا يجب أن يتم على مستوى القوى المدنية- السياسية التي تطرح قضية التغيير وتحضر لدور الدولة المقبل.
التقاء الفوقي بالفوقي
إذا عدنا إلى قضية ترابط المهمات التاريخية، فإن التقاءً أعمق يحصل، ألا وهو: إن التأسيس لبنية اجتماعية فوقية جديدة ربطاً بالتأسيس لحضارة جديدة، يمر اليوم بالضرورة بالبنية الفوقية- العقلية للإنسان، أي بناء وعيه، ليس فقط على مستوى التحريض أو تقديم أفكار عامة دعائية أو سياسية تكتيكية، بل في تقديم بنية هذا العقل الجديد، ربطاً بالتصور الشامل عن العامل، تلك الحضارة المنوي فتح منافذ التاريخ لها. ومن هنا نوعية وتميّز هذه المرحلة ودقة عملية البناء المطروحة.
ومن هنا تبرز قضية منهجية يجب الوقوف عندها والتوسع والتدقيق بها، ألا وهي أن المستويات التحتية والفوقية من البنيان الاجتماعي (وضمن الفردي) تبرز لأول مرة على مسرح التاريخ بهذا الترابط البنيوي العميق، في التقائها التاريخي ضمن لحظة وصول التناقض في المجتمع الطبشقي إلى ذروته، ما يكشف البناء النظري لهذا المجتمع إلى العلن، ويقرّب من مستوياته كذلك.
علم متأخر وعلم يولد
هذه اللحظة النوعية تدفع إلى الواجهة مسألة دور العلم في عملية الانتقال التاريخي. فبروز البناء النظري وقوانين هذا المجتمع إلى الواجهة بالمعنى الممارسي، يتطلب من العلم أن يكون حاضراً لكي يكون الوسيط بين السياسي الممارسي وبين التاريخي النظري. هذا ليس بالجديد، ولكن لكون نوعية اللحظة شديدة التميز والتسارع والعمق تاريخياً، فإن موقع العلم سيكون في صدارة المشهد. وبما أن العلم السائد صار متخلفاً عن اللحظة التاريخية، وبالتالي مطلوب تجاوزه، فإن علماً جديداً يولد في قلب العملية الصراعية السياسية نفسها، ويسير إلى جانبها. وهذا مؤشر آخر على نوعية عملية الانتقال في عمر البشرية.
إننا أمام موجة «مادية» (فلسفياً وفكرياً) أعمق على مستوى التاريخ البشري.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 971