حينما ابتلعتنا ثقافة «الترند»

حينما ابتلعتنا ثقافة «الترند»

لا يتذكر الكثيرون منا متى وكيف دخل الترند (Trend) وتكرّس كنهجٍ أو أسلوب حياة. مر زمنٌ ثمّن الناس فيه الأفكار المُبتكرة، المغايرة للسائد، الأصيلة. كان الواحد فيهم يشعر بالفخر إن استطاع الخروج بفكرة جديدة لم يسبق- حسب ظنه- أن عالجها شخصٌ قبله. وحتى حينما اكتشف بأن آخرين سبقوه إليها، كان يجتهد لمعالجة الفكرة من زوايا جديدة بحيث تحمل بصمته، أو على الأقل أثر محاولاته الصادقة لتقديم شيء جديد. متى انقلبت الآية، وباتت الموضة بأن تُثمّن النزعة نحو التقليد والنسخ والتكرار؟ وأن يمسي الجري وراء الترند والموضة السائدة «Trendy» بحد ذاته؟

ترند داخل الترند

يعرّف قاموس كامبرج الـ (Trend) بأنه تطوّرٌ عام أو تغيّر في ظرفٍ ما أو في الطريقة التي يتصرّف فيها الناس. وعند ترجمتها إلى العربية يعبّر عن ذات المصطلح بكلمات من قبيل «نزعة» أو «ميل جديد»، وعادة ما يُقصد باستخدامها اليوم التدليل على موضة أو اتجاه سائد جديد ينتشر غالباً على مواقع التواصل الاجتماعي، أو يتسلل إلى الأحاديث اليومية. اللافت في الموضوع، أن الناس الذين يكثرون من استخدام هذه الكلمة يرددونها باللغة الإنكليزية دون ترجمتها إلى العربية، كما لو أن ذلك بحد ذاته جزءٌ من الموضة المرتبطة بها، فالأمر أشبه بـ «ترند داخل الترند».

تشكيلة ترندات لعام 2020

لفهم آلية عمل وتشكّل الترند يمكن استعراض بعضٍ من أشهر النزعات أو الصيحات الجديدة في عام 2020.

ففي حملة جديدة لماكدونالدز تم استخدام لوحات فنية كلاسيكية للترويج لنوع جديد من البرغر، حيث أدخل إلى اللوحات الشهيرة قطعة صغيرة من اللحم المقدد وضعت على كتف الموناليزا أو على ياقة فان جوخ. فيما ظهرت خطوط أزياء مستمدة من التغيير المناخي، وألعاب مستوحاة من مسلسلات تلفزيونية شهيرة، نرى فيها شخصيات مسلسل فرندز (الأصدقاء) وقد تحولوا إلى قطع ليغو بلاستيكية. ومن الأفكار التي يتم تثمينها على اعتبار أنها «خلّاقة» و«جريئة» اختيار عارضات الأزياء مصابات بمتلازمة داون ليتم تصويرهن بوضعيات مُحملة بإيحاءات جنسية. أما في المجال الاقتصادي والبيئي فهناك مبادرات جديدة يقوم فيها المشاركون بإلتقاط صور لأماكن متسخة ومليئة بالقمامة «قبل وبعد» تنظيفها، وفي مستوى آخر من العمل على الترند وتطويره، نرى القمامة نفسها تتحول موضوعاً لأعمال فنية معاصرة.

فيما وضع أحد مصممي الأزياء في كوريا الجنوبية تصميمات جديدة لمجموعة ربيع- صيف 2019 مستمدة من ثياب المتظاهرين في الشارع، ونرى فيها عارضي الأزياء يرتدون ما يشبه الستر الواقية للرصاص والثياب الفضفاضة والأوشحة السميكة. حيث أن هذه الثياب تقدّم، من وجهة نظره، تفسيرات فنية للاضطرابات السياسية الحاصلة حول العالم.

أما في نيويورك فقد قامت إحدى شركات الأثاث بتصميم مجموعة كراسٍ مناهضة لـ«التحيز الجنسي»، حيث تم تصميم كراسٍ خشبية مخصصة للرجال أخذ المقعد فيها شكل مثلث حاد الأطراف ليجبر الشباب الذكور على تقريب أقدامهم وجعلها ملتصقة أثناء الجلوس، فيما توضع قطعة خشبية في منتصف مقعد النساء لتجبرهن على فتح أقدامهن بأقصى ما يستطعن. تقول الفنانة التي صممت هذه الكراسي بأنها استمدت الفكرة من الطريقة التي يجلس فيها الرجال في وسائل النقل العامة مباعدين بين أرجلهم بشكل مبالغ فيه. وعلى الرغم من أن الكراسي لا تبدو في الصور مريحة البتة، لكن كما يبدو ذلك ليس أمراً مهماً هنا. فالكرسي بمثابة «مانفيستو» ولا يهم إن كانت عملية أو مريحة.

الترند كنظام تشغيل

في الوقت الذي قد يقبل فيه المرء الموضة التي تتعلق بالثياب مثلاً على اعتبارها تفضيلات أو أذواق شخصية، يكوّن هضم وتجاهل الأفكار والمشاريع المُقلّدة أمرٌ أشد صعوبة.

يتحوّل الترند إلى منظومة تفكير متكاملة، أو ما يشبه نظام التشغيل، فهو يخبرك بدايةً (كمتابع أو مستهلك) بأي القضايا يجب أن تشغل بالك، فتقرأ عنها أو تشاهد فيديوهات وتقارير حولها. ومن ثم يوجّهك إلى شكل محدد من التفاعل معها، كأن تستخدم مثلاً صوراً موحّدة لحسابك على الفيسبوك أو ترفق كلامك بوسومٍ معينة. حتى أن هناك كلمات وتعبيرات دقيقة يجب عليك الاختيار منها لتعبّر عن أفكارك. بحيث يبدو الترند أشبه بعملاق ضخم يحمل دفتر علامات ويضع بجانب اسمك علامة (صح) في كل مرة تمسي أكثر تطابقاً مع من حولك.

وظيفة الترند

أحياناً ما يتم فرض الترند بصورة غير مباشرة، بحيث يجد الأفراد والمؤسسات أنفسهم منساقين وراء أفكار محددة لأنها تحاصرهم أينما تحركوا، وتغريهم بأن يكونوا جزءاً منها. لكن وفي أحيانٍ أخرى يتم فرض الترند بصورة أقرب للقسرية، فعلى سبيل المثال: تخصص الكثير من المنظّمات العالمية منحاً مالية لموضوعات محددة فقط، كالعنف القائم على النوع الاجتماعي وما يرتبط به من قضايا كالتحرش الجنسي في أماكن العمل، أو زواج القاصرات، فنرى جهد المؤسسات والمبادرات الصغيرة منصباً على تغطية هذه الموضوعات طمعاً في الحصول على دعم تلك المؤسسات وامتيازاتها.

وبالتالي، تحقق ثقافة الترند عدة مكاسب ووظائف سياسية واقتصادية. ربما تكون الناحية الاقتصادية هي الأكثر وضوحاً هنا؛ فالقضايا الاجتماعية أو البيئية تحولت في الأمثلة التي ذكرناها سابقاً إلى سلع، مثل: قطع أثاث وملابس وألعاب.

لكن كيف يمكن للترند أن يخدم أهدافاً سياسية؟ هذا هو السؤال الأعقد ربما. الانطباعات الأولية تدفعنا للقول: إن الترند يلعب دوره كأدة للهيمنة، فهو يوجه الناس بصورة أو أخرى إلى قائمة من الأفكار المسبقة التي يراد لهم التفكير بها. هو يُعرّف لهم ما هو المهم والضروري والخطير والحساس والمُلّح. ويوفر عليهم عناء التفكير في موضوعات أخرى قد تكون أكثر جوهرية. ومن جانبٍ آخر قد يتحوّل الترند أيضاً إلى أداة تفرّغ القضايا السياسية من مضمونها، بحيث يتم الإبقاء فقط على الهيكل الخارجي من الظاهرة بعد أن يتم إفراغها من معناها حتى آخر قطرة.

والأخطر من هذا كله، أن الناس حينما يكونون متشابهين تكون السيطرة عليهم أكثر يسراً وسهولة، وتحديداً إذا ما كانوا يظنون أنفسهم متنوعين، مجددين وخارجين عن المألوف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
971
آخر تعديل على الإثنين, 22 حزيران/يونيو 2020 14:22