دهشة الوجوه أمام مرآة الأدب
يصف الروائي اللبناني ربيع جابر في روايته «بيروت مدينة العالم» لحظة شاهد أهالي بيروت مرآة كبيرة للمرة الأولى، وكانت جاءت عبر البحر ضمن المتاع والأثاث الجديد لبيت القنصل البريطاني. يحكي جابر بأسلوبٍ ساحر كيف تجمّع العابرون وتجار السوق في تلك اللحظة لمشاهدة أغراضٍ وحاجيات ثمينة لم يسبق لهم أن رأوا مثلها، وكيف أنهم أصرّوا على كشف ماهية القطعة المستطيلة التي بدت لهم مثل بابٍ ملفوفٍ بالقماش. القنصل تململ من إلحاحهم ولم يصدّق بأنهم لم يشاهدوا مرآة من قبل حتى أمر رجاله بكشف اللثام عنها. يكتب جابر واصفاً ما حدث بعد ذلك من منظور مرآة تنظر إلى المدينة: «كانت مرآة تحتشد بالبشر وبالوجوه المدهوشة، لكن الوجوه سرعان ما اختفت متراجعة إلى هذا الجانب أو ذاك، أفزعهم المنظر الواضح لوجوههم التي لم يبصروها من قبل. أفزعهم النور الأقوى من نور الشمس العالية، وأفزعهم العالم المربك الذي ظهر كاملاً مكرراً في أعماق المرآة».
يُستعاد ذكر هذا المقطع اليوم لأنه يحاكي بصورةٍ أو أخرى العبارة المعقدة- المكرورة التي تُشبّه الأدب بمرآة للواقع، أو تطالبه بأن يكون كذلك. والحقيقة إن إشكالية الواقع مقابل الخيال ما تزال قضية معقدة في الأدب تنال قدراً وافراً من النقاش: هل يجب على الأدب أن يكون واقعياً أو خيالياً أو مزيجاً من الاثنين؟ وأي الأنواع تستحق بجدارة اسم الأدب؟
فهناك كما يبدو اتجاهٌ سائدٌ يُثمّن الأعمال الأدبية القائمة على مخيلة واسعة، على اعتبار أنها دليلٌ مباشر على أن المؤلف ذهب خطوة أبعد، وبذل جهداً أكبر متجاوزاً عملية النسخ واللصق من الواقع كما هو. ويرى أصحاب هذا الاتجاه بأن الكتابات الواقعية ضحلة ومباشرة، لأنها تتعامل مع الواقع كطفلٍ يقف أمام مرآة ويشاهد عليها انعكاس صورته، لكنهم يهملون ملاحظة أن العبارات المباشرة والتصوير المُبسّط لم يكن خطأ الواقع، بل هي خيالات الكُتاب عما يجب قوله والتصريح به بحجة أنهم ينقلون ما يحصل على الأرض.
لكن في المقابل، يبدو أن هناك نوعاً من الغموض والخصوصية التي تلف الأعمال التي تبتدئ بتنويه من قبيل: «هذه القصة مستمدة من أحداثٍ واقعية»، كما لو أن العمل هنا يكتسب لدى القرّاء قيمةً إضافية انطلاقاً من حقيقة أن الأحداث الغرائبية أو القاسية التي يسردها حصلت حقاً لشخصٍ ما في زمنٍ ما.
«الخبز الحافي»
ومن الأمثلة الجيدة على ذلك السيرة الذاتية للروائي المغربي محمد شكري التي حملت عنوان «الخبز الحافي» ونالت شهرة واسعة داخل العالم العربي وخارجه. صاحب الكتاب اشتغل صبياً في مقهى، ومزارعاً في حقل، وبائعاً متجولاً ومتسولاً ونشالاً ومهرّباً، حتى أنه باع جسده لعجوزٍ أوروبي حينما كان في السادسة عشر من عمره لقاء مبلغٍ من المال صرفه على البغايا والكحول. الكاتب الذي كان أميّاً لا يعرف الكتابة أو القراءة بصورة مطلقة حتى سن العشرين، يتحدث عن التحوّل إلى مهنة الكتابة كما لو أنها تحدٍ آخر من تحديات الحياة، أو مهارة أخرى احتاج إلى تعلّمها كي يثبت مكانته لنفسه أو للآخرين. وبالتالي فغِنى الكتاب استمد قيمته من غِنى الحياة التي كانت موضوعه.
يجادل المنحازون إلى تيار «الكتابة الواقعية»، باستحالة نسخ الواقع كما هو لأنه معقدٌ بما يكفي كي يجعل مهمة مثل تلك شبه مستحيلة، وحتى تلك الأعمال التي تُجرّب أن تبقى أمينة لشكلٍ من أشكال الكتابة الواقعية تستطيع في أحسن الأحوال توثيق زوايا وجزيئات محددة منه.
«الواقعية السحرية»
من جهة أخرى، يزداد الأمر تعقيداً حينما يجد القارئ نفسه أمام أنواعٍ أدبية مُركّبة مثل تيار «الواقعية السحرية» الذي اشتهر به بعض كتاب أمريكيا اللاتينية أمثال غابرييل غارسيا ماركيز وماريو براغاس يوسا وغيرهم. فمصطلح الواقعية السحرية يستحضر إلى ذهن القارئ صور أمواتٍ يعودون للحياة وأشخاصٍ يطيرون في السماء ومسوخ وعجائز تتحول إلى طيورٍ خرافية. لكن يبدو أن هذا التيار يحمل في طيّاته شيئاً أعمق من جرعة الخيال التي تُذهب عقل من يقرأه.
في تحليل هذا النوع الأدبي، يرى بعض النقّاد أن تضمين الحكايات عناصر خيالية أو أسطورية قد يكون باباً آخر نحو الحقائق. فالقارئ قد يعتقد أن هذا النوع من الكتابات قائم بكليته على الخيال، لكن كلمة واقعية لا تقل أهمية، لأن هذا النوع الأدبي وكما يُقال: «ينغرس بعمقٍ في الواقع لكنه يستخدم طرقاً وأدوات للتعبير عنه قد لا تكون واقعية بالضرورة».
«مائة عام من العزلة»
وتأكيداً على هذه الملاحظة، يمكن القول مثلاً أن «مائة عام من العزلة» لماركيز، والتي تحكي سيرة حياة أجيال متتالية من عائلة واحدة في قرية متخيّلة، ليست عملاً خيالياً محضاً لكنها في الوقت ذاته تقدم أكثر بكثير من سرد تاريخي أو نقدي للتاريخ الكولومبي وأحداث الإصلاح السياسي الليبرالي أو حتى التغيرات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على حياة الناس إبان عصر الاختراعات الجديدة. بحيث يثبت هذا العمل أن الغرائبية تستطيع الحديث عن التاريخ بأفضل طريقة ممكنة.
قد يكون الاصطفاف في المحصلة، لصالح الخيال أو الواقع، أمراً غير ذي أهمية، فالكتابات الجيدة واقعية كانت أم خيالية تحتاج أن تكون صادقة، والمقصود بالصدق هنا أن تهم من كتبها حقاً، بحيث يشعر بأنه مضطرٌ لكتابتها ومشاركتها مع الآخرين. وينقل للقارئ فيما بعد هذا الإحساس بالقيمة والضرورة.
أحياناً ما تكون الكتابة عن الواقع صعبة لأنها مباشرة، ولا تلجأ إلى حيل الخيال ولا تخفي شخوصها وأحداثها، وبالتالي تكون مهمة إحداث الأثر في القارئ أمراً أكثر تحدياً. في المقابل يدرك الكتّاب أصحاب المخيّلة الواسعة أن اختلاق أحداث هائمة وابتكار شخصيات خرافية قد تمسي فعلاً متعباً وعبثياً إن لم يستطيع القارئ محاكاتها وبناء صلة معها. فالكتابات بأنواعها المختلفة، تحكي شاءت أم أبت عن الواقع؛ تنطلق منه وتدور حوله وتتخيل أبعد مدى ممكن أن يصل إليه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 968