وسائل التواصل ورهان تشيخوف!

وسائل التواصل ورهان تشيخوف!

لم يخطر في بال أحد من قبل، شدة وحجم واتجاه الأحداث المتسارعة التي حدثت خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي كان أحد أهم أدوار البطولة فيها لفيروس لا يُرى بالعين المجردة، تحدى البشر بقوة وشراسة وألزمهم بيوتهم.

تدور أحداث قصة الرهان لأنطون تشيخوف والتي جسدتها تمثيلاً إحدى لوحات مسلسل مرايا حول تطور الإنسان وارتقائه، إذ تحكي عن عزلة اختيارية نتجت عن رهان بين رجلين يقبل أحدهما بحبس نفسه مدة خمسة عشر عاماً مقابل مليونين من الروبلات. يصور تشيخوف كيف تطورت شخصية البطل «السجين» والتحولات التي مرّ بها بفضل اطلاعه على جزء هام مما أنتجته البشرية من أعمال فكرية وأدبية وثقافية.. إلخ، وكيف صقلت الموسيقى روحه داخل جدران عزلته، والتي جعلته في النهاية يخرج قبل ثلاث دقائق من موعد انتهاء المدة المحددة غير آبه بالجائزة المنتظرة! ربما لم يكن لكل ذلك أن يحدث له، لولا توفّر الوقت في سجنه الاختياري. الوقت الذي يكاد يكون أثمن ما يملكه البشر، فاللحظة التي تمر لا سبيل لعودتها ثانية.

الهيمنة تكنولوجياً

لا يستطيع أحد أن ينكر ما أحدثته التقنية من تغيير لماهية الإنسان في العصر الحديث. إذ تمكنت الرأسمالية أثناء تطورها من القبض على وقت الناس كاملاً (وقت العمل ووقت الفراغ)، من خلال تطور تكنولوجي فاق كل حدود التصور، وتطوير أدوات ووسائل ساهمت في جعل العالم قرية صغيرة، وربطت البشر بأجهزة ذكية ترافقهم في كل مكان، وببرامج غيرت طرق وأساليب تواصلهم الاجتماعي برمته، ضمن سعيها لإحكام قبضة الهيمنة على كل مفاصل الحياة.
أتاح انتشار فيروس كورونا والعزلة الوقائية التي فرضها الخوف من انتشار المرض للناس الكثير من الوقت. وقتاً ثميناً، ينتظر كثير من الناس امتلاكه بفارغ الصبر ليقوموا بكل تلك الأشياء التي كانوا يحلمون القيام بها، ولكن الوقت لا يسعفهم لذلك!
قبل تفشي جائحة كورونا عالمياً، تواصل الناس مع بعضهم ليل نهار، رغم فوراق الزمن والجغرافيا الشاسعة عبر العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي (ميزة لم تكن متوفرة لبطل قصة تشيخوف السابقة)، ورغم كل إيجابيات التواصل وحسناته البالغة التأثير في حياة الناس إلا أنه لابد من التذكير بأنه وضع الناس في حالة عمل شبه دائمة، خاصة في أوقات الفراغ، التي غالباً ما تصبح مرهونة به. ومن جهة أخرى خلق له مشاكل عديدة كارتباط الإنسان بجهازه الذكي إلى درجة الإدمان، وتحوله إلى بوابة للاستهلاك المفتوح.. إلخ.
معرفة متنكرة في زي معرفة حقيقية
كشفت أزمة كورونا في أحد جوانبها قدرة وسائل التواصل الهائلة وإمكاناتها الواسعة للتأثير على الوعي العام والاجتماعي، وبينت جانباً هاماً منها. فمن ناحية انتشرت ظاهرة الدراسة والعمل من البيت في أماكن عديدة من العالم، واعتمد هذا التطور الخطير في ميدان العمل والتعليم على منصات التواصل، مثل: فيسبوك وماسنجر وانستغرام.. إلخ، وعلى قدرات هذه المنصات على التحاور ونقل الصور والملفات وغيرها من الخدمات.
ومن ناحية أخرى، قامت منصات التواصل الاجتماعي بتسهيل التعامل بين الناس خلال فترات العزل الطويلة نسبياً عبر العالم، ولكن لم يخلو الأمر من مخاطر وسلبيات عديدة، منها على سبيل المثال: أنها كانت سبباً في ترويج معلومات خاطئة عن المرض وانتشاره مما سبب زيادة القلق ونشر الهلع بين الناس، أو نشر شائعات مفبركة وكاذبة تتوخى الإثارة والخداع والتضليل، ليس فقط عن المرض بل تعدته إلى أخبار وقضايا عالمية أخرى سياسية واقتصادية يشكل كورونا أحد جوانبها، وبالنتيجة تتأكد قدرة هذه الوسائل على التلاعب بالناس، وخداعهم وتضليلهم، غالباً، من خلال نشر وترويج معرفة زائفة متنكرة في زي معرفة حقيقية، وهو الأسوأ على الإطلاق، أو إسهامها في خلق واقع افتراضي غير صحيح أو تشويه الواقع الحقيقي، مما يؤثر لاحقاً في نتائج تحوله بشكل سلبي.

رهان «تشيخوف»

يتابع العالم أخبار كورونا والحجر الصحي المرافق له على شاشات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي بخوف وحذر، وتستمر الأخبار والتحليلات بالتأكيد على أن ما قبل كورونا لن يكون مثل ما بعده وأن العالم يتغير بخطى حثيثة وسريعة بشكل مدهش.
كتب تشيخوف قصة الرهان سنة 1889، وتمكن من تحديد سير تطور شخصية البطل في عمله، وأعاده إلى إنسانيته بعيداً عن مغريات الثروة، بعد صراع مرير مع الوقت استغله بذكاء، وجعله يتحرر في النهاية.
راهن تشيخوف في النهاية على الإنسان وكسب الرهان. واليوم يتبين بوضوح شدة وعمق حالة الاستلاب التي يعانيها البشر، سواء في استخدام وقتهم أم في علاقتهم مع التكنولوجيا وأدواتها، ولكن اليوم أيضاً يتغير العالم من حولنا، وليس هناك ما هو خارج معادلة التغيير هذه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
966
آخر تعديل على الأربعاء, 20 أيار 2020 15:04