«السينما بين الإيديولوجيا والواقع»
إن الرأي القائل بأن الفنان في العالم المعاصر المعقد «عاجز» هو رأي واسع الانتشار بين السينمائيين الغربيين. وهذه الأطروحة تقدم كتبرير لفنٍ سلبي متشائم- فن اليأس- من ناحية، وللأفلام والأعمال الدرامية التافهة والفارغة التي ينحصر هدفها التجاري الصريح في الإمتاع ومضيعة الوقت، من ناحية أخرى. ومهما كان الأمر، فإن هذه الفكرة تقوم بدور المشروب المهدئ للضمير: لم التفكير بالمسؤولية التي يتحملها المرء تجاه الحياة وتجاه العصر إذا كان الفنان عاجزاً على أية حال؟
ومع هذا فإن الفنان تقع عليه هذه المسؤولية العظمى التي لا يملك أن يهرب منها بإلقائها على كتفي إنسان. بل من الممكن فقط اكتسابها. وفي نشر الأعمال الدرامية التافهة يكون لانعدام الضمير لدى صانعيها دور مدمر. بالشعار القديم القائل «الغاية تبرر الوسيلة» قد أخلى مكانه حالياً لشعار آخر لا يقل عنه شراً «الربح بكل الوسائل» ومن أجل هذا الربح فهم مستعدون للانزلاق إلى أي أمر.
جيمس بوند وشارلي شابلن
مثال على ذلك أفلام جيمس بوند التي أغرقت شاشات العالم. وعندما خف الطلب عليها، سعى مغول السينما الغربية سعياً مجنوناً وراء أشكال جديدة لنفس الموضوع القديم المجرب. فحتى أفلام شارلي شابلن وغيره من العمالقة لا تستطيع أن تضاهي الأفلام التي من طراز جيمس بوند من حيث الشعبية، حيث يوظف الجنس والعنف والقتل والتشويق، والتي هي أكثر الأشياء جاذبية في السينما التجارية المعاصرة. بتبذير وسذاجة. ولهذا خلقوا أبطالاً وهميين بل وأحياناً مريضين نفسياً، مثل رامبو وترمينيتور.. إلخ.
إن الثقافة الرأسمالية لحوحة وعدائية. فهي تدق ما لديها من تنويعات لنفس المجموعة من التيمات حتى تدخل رؤوس الناس فتخلق بذلك نماذج مغولية من العقليات والسلوك.
وصناعة السينما والدراما التلفزيونية تشتهران بالطريقة التي يقوم بها ممولوها ومنتجوها باختيار الموضوع والسيناريو حسب أهوائهم، أو بالنظر إلى الربح وحده. ويتعرض الصانعون الحقيقيون للفيلم للضغط لإدخال تعديلات على سيناريوهات الأفلام والأعمال التي تم قبولها بالفعل بما يتماشى مع الضرورات المزعومة التي يفرضها شباك التذاكر والمحطات التلفزيونية والميول والمطالب الراهنة.
«البسطات الثقافية»
أولئك بائعو (البسطات الثقافية) يبيعون الثقافة بهذه الطريقة، ويعرفون جيداً على أي وجه يضعون الزبدة على الرغيف. وهم يعرفون أيضاً أن الشباب الغر سوف يختار فيلماً يستخدم العنف والدم، أو حتى الجنس مفضلاً إياه عن فيلم ذي موضوع فلسفي. وهكذا فهم يحاجّونك بالقول «دعه يختار لنفسه- فهذا ديمقراطي ومربح معاً». وليس هناك بالطبع أية ديمقراطية بالمرة. ويؤدي هذا الاتجاه في التفكير فقط إلى تدعيم قوة أولئك الباعة الذين يراهنون اقتصادياً وإيديولوجياً على الثقافة الشعبية التجارية. واستخدام مصطلح «الثقافة التجارية» للتمييز بين السلعة الرديئة والإنتاج ذي القيمة الثقافية الجماهيرية الحقيقية.
لقد أشار المخرج الإيطالي الشهير «فيتوريودي سيكا» عام (1965) إلى أنه قدم سلسلة من الأفلام التي حققت للشباك عوائد ضخمة، وإن كانت تفتقد أهم شيء- وهو الروح الفنية- وذلك بهدف مساعدة المنتج «كارلو بونتي». ويعترف بمرارة بأن «هذه أفلام لم يكن يجب أن أصنعها أبداً» وعزاؤه الوحيد فيما يبدو هو أنه سوف يتمكن بهذه الطريقة من جمع ما يكفي من النقود لتقديم المزيد من الأفلام الجماهيرية الحقيقية، مثل «لصوص الدراجات» أو «امبرتود» ولا شك أنه كان مخلصاً للغاية، ويعتقد أنه قادر على تنفيذ خططه وعلى أية حال، فقد مرت السنون، واتضح أن الصفقة أجبر على عقدها مع مموليه، وانحرافه عن فن الواقعية الجديدة ومبادئها قد ترك أثراً، وإن كان هو قد قصد أن يكون انحرافه هذا مؤقتاً فقط. كما أجمع النقاد التقدميون الإيطاليون بأن «دي سيكا» قد وقع في شباك سينما الشباك «أي التجارية». والأفلام التي يقدمها تتدهور من حيث المستوى. حيث إنه قد فقد ذلك الخلاق الذي منحه القوة ليخرج أفلاماً دون التفكير في ذاته ومبادئه، أفلاماً كان يعتقد أنها ستفيد المجتمع.
ففيلم الشباك «أي شباك التذاكر فقط» في البلاد الرأسمالية يهدف وهو يتزين بخرافات تم تلفيقها بمهارة من الزركشات الظاهرية للحياة بهدف إنتاج تأثير مخدر ينتقل في الحال إلى المشاهد.
وهذا يخلق دائرة مفرغة يقوم من خلالها فيلم الشباك، بجعل المشاهد غير قادر على تلقي القيم الجمالية للفن الحقيقي، فلا يرى المشاهد فيلماً أو برنامجاً تلفزيونياً إلّا إذا كان مصمماً بما يتناسب مع ذوقه المفسد.
المعارضون لهوليوود
من الصعب غالباً أن نحلل الموقف الكامل للسينما المعاصرة في العالم الرأسمالي، فالحركات القوية، مثل «الواقعية الجديدة» في إيطاليا هي الآن تاريخ قديم. وبالرغم من أن المثال الذي تقدمه، والدرس المستفاد منها لا يمكن أن تدفع به إلى ظلال عتمه المتحف بعد. فقد توقف تطورها في بدايات الستينات.
كما أنَّ عنفوان «الموجة الجديدة» في فرنسا أصبح أيضاً شيئاً من الماضي.
وكذلك كان مصير «السينما الجديدة» في بريطانيا. حتى أعمال المخرجين الأمريكيين «المستقلين»، المعارضين لهوليود عاجزة أيضاً على أن تصل إلى ما كان يتوقع لها من قبل.
والادعاء بأن السياسة معادية للفن موضع اهتمام كبير في البلاد الرأسمالية، إما لحماية الفن من تأثير الأفكار التقدمية، أو للادعاء بأن الفن الفردي كامل الاستقلال والسيادة، ولا يمس أبداً. وعلى أية حال فمن المتناقضات المعاصرة الإصرار على أن الجهد الفني الحر والسياسة لا يتماشيان مع بعضهما البعض، مع أن البورجوازية تشجع تشجيعاً لم يسبق له مثيل، الفن الذي يتبع خطها السياسي بشكل صريح.
وغالباً ما تشهد هذه الأيام حالات تُستخدم فيها الأساليب الفنية للترغيب في سياسة رجعية أو تشويه أو تطويع سياسات تقدمية مع الاحتياجات الإيديولوجية للبورجوازية.
«8 ونصف»
لجأت العديد من الجهات- شركات الإنتاج ووسائل الإعلام- إلى نشر تصورات جاهزة لكافة الأفلام التي تسلط الضوء على الواقعية الحقيقية، فزاد إنتاجها لنوعية الأفلام التي غالباً ما تصرف لإنتاجها ملايين فاحشة من الدولارات، لإبراز نوع من الواقعية الزائفة. لكن رغم دولاراتهم ووسائل إعلامهم فلم يستطيعوا أن يقفوا في وجه العديد من المخرجين والكتاب التقدميين، أمثال المخرج الفرنسي آلان رينيه Alin Resnais الذي قدم بعد فيلميه «العام الماضي في مارين باند» و«موربيل» قدم «انتهت الحرب»، الفيلم الذي أعطى صورة في غاية الدقة والصدق عن جميع الأخطار التي واجهها شيوعي إسباني في حركة المقاومة السرية والشجاعة التي أظهرها للوقوف بوجه أخطار الرأسمالية التي تمتلك آلافاً من الأقنعة المزيفة والمجملة. كما أنهم لم يستطيعوا أن يقفوا في وجه الأفلام العميقة والمعقدة ولا حتى تقيمها موضوعياً. مثل فيلم «8 ونصف» لفيدريكو فلليني.
لكن مع هذا فعمل فيلم ليس فقط عملية إبداعية، ولكنه أيضاً مسألة مكلفة، تقوم فيها الأموال بإملاء شروطها، ولا يستطيع إلا مخرج غني وجسور، أن يتغلب على منتج أو هيئة من المنتجين. وهكذا فلكي يصبح المخرجون مستقلين فإنهم يقومون بتمويل أفلامهم. ولكن حتى في هذه الحالة فليسوا مستقلين تماماً، فالمجتمع الغربي وسياسته تجعلهم مرتبطين بالموزعين، برجال البنوك وأجهزة الإعلام التي تستطيع قتل فيلم جيد، وإعلاء شأن فيلم تافه، لأن سيطرة رأس المال على الفن تتضح بشكل خاص في منع أفلام معينة وحجبها، وغير ذلك من العقوبات الإدارية والمالية. وهذه السيطرة يكون من الصعب تبينها- مما يجعلها أكثر خطراً- عندما تؤثر على العملية الإبداعية بالتأثير على عقل الفنان وفرض معايير بورجوازية على أسلوب التعبير عن الذات.
ولهذا فمن الهام للغاية نظرياً وتطبيقياً أن نوضح المقصود بمصطلح «سينما الشباك» وأن نميز بين الثقافة الشعبية التجارية، وبين الثقافة الجماهيرية الأصلية، وهي الثقافة التي تصنع من أجل الشعب. وفي النهاية فكل فنان جدير بهذا الاسم سوف يسعى إلى تحقيق الألفة مع جماهير المشاهدين، على أسس فنية عالية حقاً. وعندما يتم له ذلك سيتحقق من الحقيقة القائلة: إن الفيلم الذي يُعرض مرات كثيرة لا تتناقص قيمته. وعلى العكس فإن شعبيته وتأثيره المتزايدين يؤديان إلى إضافة قيمة جديدة إليه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 950