أسباب نشوء الفن- المعرفة
من الحاجات الأساسية الاجتماعية للإنسان، والتي لم يكن لها طابعٌ جمالي، خرجت جميع أشكال التعبير الجمالي. واستغرق استقلال تلك الأشكال ردحاً طويلاً من الزمن، حتى انطوت أخيراً تحت جناح الفن. فقبل القصيدة كانت الكلمة والأبجدية. وقبل الفن التشكيلي، كانت الصور والنقوش الجدارية على الكهوف القديمة.
وأشكال التعبير الجمالي عديدة بتعدد مهام الفن، وقضاياه. لكنها ترتبط بطبيعة المراحل التاريخية وأنماط الإنتاج الاجتماعي فيها؛ فهي لم تكن واحدة خلال التاريخ البشري؛ إذ اندثر بعضها، وعاد بعضها ليكون غير جمالي- لا فني، في حين اكتسبت أشكالٌ أخرى المرونة اللازمة لتندمج في الوعي الاجتماعي الجمالي لأنماط الإنتاج الاجتماعي اللاحقة، متخذةً مكانها إلى جانب الأشكال الجمالية الحديثة في المرحلة المحددة تاريخياً. ولا يمكن التنبؤ بالأشكال التي قد تظهر مستقبلاً، فذلك شأن يرتبط بقوانين الفن الداخلية، وعلاقته العضوية بقوانين التطور الاجتماعي الموضوعية. غير أن تنوع الأشكال الجمالية ظل يدور عبر الزمن في فلك محتوى الفن، ولم تكن تلك الأشكال سوى الأدوات التي يحقق فيها الفن (وجوده الواقعي).
هذا ما سنحاول البدء في إلقاء بعض الضوء عليه في مقالنا اليوم:
يرتبط الوعي الجمالي- الفن، أو ما يمكن أن نطلق عليه الحاجة إلى الجمال بالعمل. وعن طريق العمل اتخذ الفن أشكاله الأولى. وقد ظل متّسقاً معه مندمجاً به زمناً طويلاً قبل أن تفصله تعقيدات الحياة الاجتماعية متخذاً خصوصيته وخاصياته، ومحدداً مجاله الخاص بها. وظهرت الأشكال البدائية الأولى للفن في الفترة التي تلت تشكّل الوعي البشري بضرورات تملك العالم عن طريق العمل المباشر الممتد لآلاف السنين. وهو ما يقدم تفسيراً عن ارتباط بعض أشكال الفن ببعض المهن فترات طويلة من الزمن قبل أن تستقل في مجالها الخاص.
وقد وجد الباحثون الآثارَ الأولى للفن التشكيلي خلال بدايات العصر الحجري القديم مع نضوج نظام المشاعة البدائي، وتكوّن علاقات المجتمع الأمومي، وظهور أول تقسيم للعمل في التاريخ البشري، وكان بين الرجل- الصيد، والمرأة- جني الثمار، حين استطاع الإنسان القيام بصناعة أدوات عمله من الحجر والقرون، وظهرت بدايات اللغة لديه. ويفترض الباحثون أن محاكاة عمليات الصيد في ذلك العصر، هي البدايات الأولى للفنون المسرحية، وأن الصراخ خلال تلك المحاكاة، هي بدايات الشعر والموسيقى. بمعنى، أن النشاط الفني حدث في ذلك العصر، غير أن إدراك البشر آنذاك لنشاطهم وأعمالهم الفنية مسألةٌ لا يمكن البت بها.
وقد جهد الباحثون في استقصاء أسباب انتقال الإنسان البدائي من النشاط العملي المباشر المفيد وصناعة الأدوات، إلى نشاط فني- غير مفيد. وخرج منظرو البرجوازية بنظريتين لا تزالان تجدان أصداءً لهما حتى اليوم.
الأولى: نظرية اللعب التي خرج بها شيللر، وهي تفترض حاجة الإنسان البدائي إلى اللعب الذي يذهب به إلى الوهم دون سعي إلى تحقيق أي هدف في ظروف كان يخوض فيها صراعاً وجودياً مع قوى الطبيعة المتفوقة!
إن محاولة تسويق الفن منذ نشوئه مستقلاً عن العمل والعلم، وكحالة للراحة وتحصيل الاعتدال النفسي، هو أمر غير منطقي، لجهة أنّ ظهور أشكال الإبداع الفني الأولى تمَّ في ظروف جَهِلَ فيها الإنسان عالمه المحيط، وذهب إلى تفسيره بالسحر والغيب. وها هو السحر اليوم زائلٌ، لكن الفن باقٍ، بل تعددت تقنياته وأشكاله، وتبدلت وتطورت.
الثانية: نظرية السحر التي خرج بها ريناك، وهي تبدو أكثر واقعية من الأولى لجهة أنها ترى أنّ للصور والنقوش البشرية الأولى قوةً سحريةً جبارة احتاجها الإنسان للتغلب على قوى الطبيعة. ولهذه التصورات الساذجة عن العالم والمرتبطة بالسحر كأول شكل من أشكال الأديان علاقةٌ بالإبداع الفني تمثله المحاكاة المسرحية البدائية لعملية صيدِ صورةِ الوحش كقرينٍ للوحش الحي، وتمثيل النساء للآلهة في العصر الأمومي..
ورغم أن تفسير العالم بالسحر يبدو ساذجاً اليوم، ورغم أن الفائدة المتخيلة غير المباشرة للأشكال الأولى للإبداع الفني المرتبطة بالسحر، تبدو ضئيلةً أمام الفائدة الواقعية المباشرة المتمثلة بالصيد، إلا أن تلك الفائدة مثَّلتْ أول أشكال المعرفة الإنسانية المركبة للعالم، كما مثّلت أول أشكال محاكاة الطبيعة ومعرفة وإبداع كائناتها، بعد أن ظهرت ميول الإنسان لإدراك العالم وقوانينه الموضوعية حين تحرر العمل من أشكاله الغريزية الأولى التي تضمن بقاء النوع وجودياً، وهو ما مهد الطريق أمام التطور المعرفي البشري اللاحق.
وعلى ذلك، فإن أسباب نشوء الفن واقعياً، تختلف عما تخرج به النظريتان السابقتان. فالفن لم يكن منذ نشوئه ميداناً لتفريغ طاقات فائضة، أو مجالاً لعرض خصوصيةٍ فرديةٍ أو اجتماعيةٍ؛ إذ لم يكن إنسان ذلك العصر يملك إدراكاً لفرديته أو لكينونته الاجتماعية بعد. ولم تشغل تلك الموضوعات حيّز نشاطاته العملية المتمثلة بضرورات بقائه على قيد الحياة. تلك الضرورات التي عنها خرجت حاجته إلى الإبداع الفني كحاجة للمعرفة، واستخلاص ما هو عام في عالمه الموضوعي.
بمعنى، أن الفن شكّل منذ نشوئه الجوانب المعرفية التي اتصلت بالمنفعة غير المباشرة للإنسان، وكان عِلماً إلى جانب كونه فناً. ولربما تشكّل النقوش البشرية الأولى أول تدوين معرفي للإنسان. وارتباطه بالمعرفة هو بالضبط ما هيأ كمال الفن عبر العصور، ولم يُعرف فصل للفن عن المعرفة إلا في عصور تشويه المعرفة البرجوازية الحديثة.
إنَّ الشعور والإبداع الجماليان إذاً لا ينفصلان عن المعرفة، بل ينموان بازدياد المعرفة والحاجة إليها. وهما ليسا بلاهدف، غير أن الهدف يخرج عن نطاق تلبية الحاجات الأساسية الضيقة. ولا- ولن- يستطيع الإنسان إبداعاً جمالياً أو إنتاجاً لمعرفة جمالية، طالما قُيّد بضغط حاجاته الأساسية للحياة التي تحشره في زوايا الأنانية والفردية والخلاص الفردي.
إن تقييد الإنسان بضرورة تحصيل أسباب عيشه، هو تقييد لكل انفعالٍ وشعورٍ لديه بالغريزة والمنفعة المباشرة التي تلجم قدرته على فهم وتقييم الظواهر في العالم الموضوعي والتعرف على قوانينها الموضوعية، وبالتالي، عجزه عن تملك العالم تملكاً معرفياً جمالياً. بمعنى أكثر وضوحاً، إنه محاكاة عكسية مشوهة عصرية- لا يمكن أن تستمر- لظروف الصراع على البقاء التي تجاوزها إنسان نياندرتال قبل آلاف السنين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 938