الوعي الديني لمجتمع الجزيرة في عصر الجاهلية الأخيرة
لم تكن التصورات الدينية المحدَّدة بمستوى الوعي الاجتماعي لمجتمع الجزيرة العربية في العصور السابقة للإسلام- خصوصاً في الجاهلية الأخيرة- مستقلةً عن السياق الموضوعي للظروف التاريخية المحددة لطبيعة العلاقات الاجتماعية الآخذة بالتحول النوعي في تلك الفترة.
نلقي في مقالنا اليوم بعض الضوء على الظواهر الدينية في مجتمع الجزيرة العربية في عصور ما قبل الإسلام:
ـ1ـ
اقتصرت معارف العرب في ظروف العلاقات الاجتماعية القبلية في الجزيرة العربية على المعارف العفوية الناشئة عن حياتهم اليومية البسيطة، المفتقرة بشكلٍ طبيعي للمنهجية المعرفية العلمية. وشكّلت تجاربهم الحياتية المتراكمة القوانين التي نظمت حياتهم البسيطة. بمعنى: أنهم استطاعوا أن يُخرِجوا العام من مجموع التجارب المعاشة، ليقيسوا به الخاص في حلّ المسائل اللاحقة، وهو شكل من أشكال العمل العقلي البسيط. كما كان لحياتهم الرعوية أثرها في اتصالهم مع الواقع الموضوعي، فعرفوا الطب والفلك والطقس بعيداً عن الخرافة بقدرِ ظروف مجتمعهم التاريخية.
غير أن ما ميَّز (نظرَهم العقلي) جدلُهم القائم حول العقائد الدينية وقضايا العالم والحياة والموت والبعث... وهو ما سنعمل على تلمسه أدناه.
ـ2ـ
عُرِفَت الوثنيةُ التي ألّهَتِ الظواهرَ الطبيعية في الدول القديمة في اليمن منذ القرن الثامن قبل الميلاد. فقد عبَدَت سبأ نجوم الزهرة والقمر والشمس. غير أن انهيار سد مأرب أحدث انقطاعاً تاريخياً في تطور الوعي الديني الصاعد، فانتكس منذ القرون الميلادية الأولى، وحتى السادس منه، نحو انتشار الوثنية الممثَّلة بعبادة الأصنام كأُولى الظواهر الدينية في تاريخ البشرية في عموم الجزيرة العربية، التي سادت فيها العلاقات الاجتماعية القبلية المبعثرة. على أنّ العرب عرفوا ربما من الفُرس خلال تلك الفترة بعض المظاهر من عبادة النار، وعرفوا أشكالاً أوليةً من (الدهرية) التي لا تؤمن بالخلق والبعث.
ثم كان لاتجاه العلاقات الاجتماعية القبلية للانحلال أمام علاقات اجتماعية تتسع لأشكال أكثر تطوراً من التناقضات الاجتماعية المبنية على التمايز الطبقي، أثره الهامّ في اتجاه القبائل نحو التخلي عن (استقلاليتها) الضيقة الفردية المبعثرة، والاستعاضة عنها بالتحالفات مع قبائل أخرى، عَرفت أشكالها الأولى في العدنانية والقحطانية، مُدّعية قرابة النسب بينها. ثم اكتفت بعامل الجوار لعقد تحالفاتها، وما ترتب على ذلك، من اتجاه الوعي الديني لتلك القبائل المتحالفة نحو اتخاذ شكل أكثر تعقيداً وتنظيماً لعبادة الأصنام تمثَّل في توحيدها لصنمها، مثل (اجتماع قضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان على عبادة صنم الأُقيصر،..). يضاف إلى ذلك تنظيم الحج في مكة، والتزام عموم القبائل بإتمامه بسلمية.. إلخ. لقد كانت (الظواهر الدينية أشد ظواهر الوعي في الجاهلية تأثراً بعملية النشاط المادي البشري).
ـ3ـ
أما وجود اليهودية والمسيحية في جزيرة العرب، فيعود إلى أسباب سياسية اقتصادية. فقد هاجر اليهود عبر الحدود الشمالية الغربية من فلسطين لدى نشوب الصراع بين الفرس وبيزنطة، واستقروا في يثرب وما حولها عملاً بالتجارة. كما استقروا في اليمن، حيث لعبت اليهودية دوراً بارزاً في الصراع السياسي العسكري الذي احتدم للسيطرة على الطرق والمدن التجارية على طول طريق البخور البحري اليمني، والمار عبر البحر الأحمر نحو البحر الأبيض المتوسط، حيث دانت الحميرية باليهودية لمواجهة مسيحية الأحباش، التي حاولوا نشرها لمآربهم السياسية الاقتصادية خلال غاراتهم على اليمن مدفوعين من بيزنطة للسيطرة على ذلك الموقع الإستراتيجي. وهو ما يفسر كون يهود اليمن يهوداً بفعل العامل السياسي الاقتصادي، وهم عرب يتكلمون العربية وليس العبرية. غير أن اليمن سقط فعلاً تحت سيطرة الأحباش، الذين اندفعوا للسيطرة على مكة في 571م لمكانتها المركزية في المنطقة.
وبغض النظر عن مآلات تلك الحملة على مكة التي آلت بالفشل، إضافةً إلى سيطرة الفرس بعد الأحباش على اليمن، ثم هزيمتهم في ذي قار 609م، فقد هيَّأت تلك الحملات الخارجية النوى الأولى التي قام عليها (شعور قومي) كما يطلق عليه بعض الباحثين، لكنه بسيط وبدائي وفق ظروفه المعرفية في تلك الفترة التاريخية في الجزيرة العربية، أساسه التّوحد ضد الغازي.
ـ4ـ
كان لوجود المسيحية واليهودية في الجزيرة العربية، وتفاعل تصوراتهما مع تصورات الوثنية، دورٌ كبيرٌ في إشاعة (الجدل في مسائل الخلق والألوهة وطبيعة الآلهة، ومسائل البعث والقيامة والنبوة). وأنْ تنتج حتماً عن ذلك التفاعل في عصر الجاهلية الأخيرة جماعةٌ تشكل نواةً في قلب مجتمع الجزيرة، تنفرد برؤيتها لعلاقة الإنسان بالعالم والحياة والمجتمع الذي يشهد إرهاصات تحولاته النوعية، في أسس علاقاته الاجتماعية باتجاه التّوحد كمحددٍ أساس لاتجاهات الوعي الاجتماعي الديني والثقافي.. إلخ. وقد خرجت تلك الجماعة التي عُرِفت بالحنفاء عن الوثنية، ورفضت تعدد الآلهة، ودعت إلى اقتلاعهما، واعتقدت بالتوحيد الإلهي، دون أن تعتقد بالعقيدتين المسيحية واليهودية، في تمثيل لوعي ديني جديد يطابق العلاقات الاجتماعية الجديدة.
عُرِفَ من الحنفاء (قِس بن ساعدة الأيادي، زهير بن أبي سلمى، سيف بن ذي يزن، أمية بن أبي الصلت، زيد بن عمرو بن نفيل، عَبيد بين الأبرص الأسدي، كعب بن لؤي بن غالب،..)، وتتناقل الأخبار أن بعضهم عايش الإسلام، وأنهم لم يلتقوا أو ينسقوا فيما بينهم،..إلخ. ورغم أن البحث في عقيدتهم لا يزال جارياً حتى يومنا هذا، غير أن الثابت أنهم التقوا على رأي واحد يأخذ بضرورة اقتلاع الوعي الديني القديم، وإحلال جديد عوضاً عنه أساسه التوحيد، مُشكّلين (ظاهرةً للتغيير الاجتماعي على صعيد الوعي الديني)، وهذا هو جوهر المسألة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 924