القاعدة المادية للإنتاج الاجتماعي في عصر الجاهلية الأخيرة
نلقي في مقالنا بعض الضوء على الظروف التاريخية التي خرجت عنها القاعدة المادية للإنتاج الاجتماعي خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين السابقين على الإسلام، على أن نخصص مقالنا المقبل للبنى الفكرية والثقافية الناتجة عن هذه القاعدة، بما يحدد البنيتين المادية والفكرية التي انبثق عنها الدين الجديد:
اعتماداً على المؤرخين الرومان والإغريقيين القدماء، والعرب المسلمين في العصور الوسطى (الهمداني وابن خلدون وابن حوقل..)، ضمَّت الحدود الشمالية للجزيرة العربية قديماً باديةَ الشام حتى الفرات. وفي حين قسَّم الرومان أقاليمها سياسياً، قسَّمها العرب تبعاً للمناخ إلى: اليمن، نجد، الحجاز، تهامة، والعروض. ويمكن القول إن الجزيرة العربية عرفت جاهليتين؛ شهدت الأولى أشكالاً أولية من الدولة (الحميريين في اليمن،..). في حين مثلَّتِ الثانية فترةَ الانقطاع التاريخي ضمن وحدة (الاستمرار والتقطع) في مجرى التطور التاريخي الصاعد المعتمد في أحد قوانينه الموضوعية على (التغيرات الكمية المفضية إلى تغيرات نوعية)، ساد فيها النظام القبلي المرتبط برابطة الدم والنسب.
وتبعاً لعامل المناخ، عرف العرب في جاهليتهم تقسيماً للعمل؛ إذ إلى جانب أشكال الحياة المرتحلة الغالبة لدى البدو المعتمد على شكل الإنتاج البدائي الرعوي كتربية الإبل، ومناطق الواحات ذات طابع الاستقرار المؤقت في الشتاء، استفاد العرب من وجود أراضٍ خصبة غرب جزيرتهم، فظهرت الزراعة في اليمن وحضرموت وعُمان واليمامة جنوب نجد والحجاز شمالاً وصولاً إلى شرق حوران، وتهامة على السواحل الشرقية للبحر الأحمر، ما يشير إلى وجود أشكال الحياة المستقرة. ولم يكن إنتاجهم الزراعي بقصد تلبية حاجاتهم في المعيشة، وإنما تكوَّن منه فائض زراعي إنتاجي سلعي متنوع دخل العملية التجارية، وكان صُنعياً في بعضه، كاستخراج أصباغ الأقمشة والجلود وتقطير الخمور وتجفيف الفواكه واستخراج الأثل، والإفادة من خشب الأشجار..، فقد أدى اكتشاف الحديد إلى صناعة المحراث البدائي وتحسين الإنتاج الزراعي، وأنظمة الري الصناعي في الطائف ويثرب.
لكن الصناعة خرجت عن نطاق صناعة أدوات وآلات الزراعة، دون المساس بتفاعلهما، وارتباطهما بسوق التبادل البضاعي. وأصبحت تدخل إطار البضاعة والتبادل التجاري، وعلا مستوى تقسيم العمل الصناعي في المجتمعات القديمة تلك، وعُرِفت قبائل بأكملها بمهن محددة كقبيلة سليم العاملة بالحدادة، فكانت (تتفاعل إيجابياً مع العمل البضاعي الإنتاجي)، وقد ظهرت أسواق خاصة ببعض البضائع كسوق الصاغة في يثرب، والأسلحة في مكة والأواني الفخارية، والسرر والأرائك، وأسواق الدباغة والفحم في الطائف..
كان لذلك دلالاته التاريخية، لجهة أن مكة لم تكن زراعية، لكنها عرفت الحديد والصناعة في الطور البضاعي، وهو ما كان عاملاً مساهماً إلى جانب التجارة، وازدياد نفوذ زعمائها الذين بدأوا بالتملك الخاص للأراضي الزراعية في الطائف لإدخالها في العملية الإنتاجية، وبالتالي زيادة الثراء الفردي، على حساب الجماعة في القبيلة.
لقد كان الحديد شأنه شأن اكتشافه في أي مكان عاملاً حاسماً في التفاعل الجاري بين النشاطين التجاري والزراعي، وفي الانتقال إلى طور الحضارة المرتبط بظهور الأبجدية المكتوبة.
ـ2ـ
لكن التجارة كانت العامل المسيطر والحاسم في التأثير على البنية الاقتصادية الاجتماعية القبلية في الجزيرة العربية. لقد كانت صلة الوصل بين داخل الجزيرة وخارجها. فقد أفادت القبائل العربية غرب الجزيرة من موقعها الجغرافي على الطريق التجاري الواصل بين جهات العالم القديم الأربع، وتحديداً بين الإمبراطوريتين العظميين في فارس وبيزنطة في تلك الفترة التاريخية. وعلى هذا الطريق نشأت المدن، وعرف الساحل الشرقي للبحر الأحمر ثغوراًـ مرافئ تجارية تًبِعَت يثرب ومكة وجدة.
ومثَّلت مكة عصب التطور الحاصل، إذ لم تكن مجرد مركز تلاقٍ تجاري على طريق البخور الممتد عبر الجزيرة العربية الغربية، والواصل بين حضارات العالم القديم في الهند واليمن والحبشة وسواحل إفريقيا الشرقية ومصر وبلاد الشام والعراق، وإنما مركز تلاقحٍ ثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي أيضاً، إضافةً إلى أن خروج زعمائها على رؤوس قوافلهم التجارية، أتاح لهم التواصل المباشر مع الحضارتين العظميين، والإفادة من شواهدهما على أحوال المجتمعات الخاضعة لهما في الشرق، ليتضافر ذلك مع مكانتها الدينية والتغيرات العميقة في البنى القبلية في الجزيرة العربية منتجاً عوامل الانحلال- النفي من جهة، والخلق- نفي النفي من جهة أخرى.
إذ لم تكتفِ زعامات القبائل في مكة والمدن التجارية الأخرى بالوساطة التجارية، لكنها انخرطت في التجارة، ما خلق لها شكلين من التمايز؛ الأول داخلي مع أفراد قبائلهم الأحرار والقبائل الصغيرة المتحالفة معهم، والآخر خارجي في إطار حدود الجزيرة العربية مع زعامات القبائل الأخرى التي ظلت بعيدة عن تأثيرات التبادل التجاري تلك.
لقد ظهر التمايز الاقتصادي في بنية المجتمع في الجزيرة العربية، مُشكِّلاً أولى إشارات انحلال النظام القبلي من داخله. إضافةً إلى نشوء ظواهر الانتقال إلى مستوى متطور آخر؛ من بروز التبادل السلعي على أساس النقد، وكانت الإبل معادلاً سلعياً لجميع السلع في البداية، ثم تحول إلى النقد المسكوك الذي لم يكن العامل المحدد في انحلال النظام القبلي، غير أن التفاعل الجاري بين مصادر الإنتاج البضاعي بين الزراعة والصناعة والتجارة، حفَّز التبادل النقدي، وتراكم الثروة الخاصة، وبالتالي، كان عاملاً مؤثراً في انحلال النظام القبلي ذي الطبيعة المشاعية التي انحصرت أواخر القرن السادس الميلادي في بعض المراعي والآبار والينابيع، بعد تملك زعماء القبائل- خصوصاً القرشيين- معظم آبار السقاية والمراعي لإبلهم ومواشيهم، وحرب البسوس شاهد على ذلك.
لقد استعاضت زعامات القبائل عن روابط الدم والنسب مع أحرار قبائلها (بالاتحادات السياسية- هيرودتس) مع القبائل الأخرى، والولاء والإلحاق..، وبدلاً عن المبادلة البضاعية في الإنتاج الزراعي والصناعي بين القبائل، حلَّت المبادلة الفردية. وأصبح نفوذ زعيم القبيلة يقاس بالنفوذ المالي والاقتصادي الذي يُمَكِّنُه من غَلَبة منافسيه، وبسط سيطرته على الأفراد.
بمعنى آخر؛ لقد شهدت الجاهلية الأخيرة تملكاً لوسائل الإنتاج. وهو مؤشر هامّ على انحلال النظام القبلي الذي بدأ أحراره ببث إشارات الرغبة بالانفكاك عنه، كظاهرة الصعلكة. أي أن انحلال المجتمع القبلي كان يتم عِبر فئاته المختلفة ومتناقضة المصالح على حد سواء.
ـ3ـ
من المهم الإشارة إلى أن مجتمع الجزيرة العربية لم يعرف العبودية كنمط إنتاج اقتصادي اجتماعي، رغم دخول العبيد في العملية الإنتاجية كقوة منتجة في الزراعة والصناعة والتجارة، والحراسة. وكان معظمهم من الحبشة وأسرى الحروب بين الفرس والبيزنطيين الممنوحين هدايا لإرضاء زعماء القبائل.
كما لم يكن لنمط الاقتصاد البدوي الغلبة في تحديد نمط الإنتاج في الجاهلية الأخيرة، فقد خضع بإطلاق لعامل المناخ في تلاؤمه المرحلي المنتج لحالة عدم استقراره، وكان عاجزاً أمام الاستقرار الحضري المحدود الآخذ بالتطور، والمتحكم في الاتجاه العام لتطور البنية الاقتصادية الاجتماعية، ملقياً آثاره على نمط الإنتاج البدوي نحو الاضمحلال والخضوع إلى نمط إنتاج أرقى ينقسم فيه المجتمع طبقاتٍ، وليس إلى (وحدات اجتماعية قبلية مبعثرة).
ـ4ـ
يشكل انتزاع قريش زعامةَ مكة من الخزاعيين على يد قصي بن كلاب في القرن الخامس الميلادي (نقلةً نوعية) أمام النقلات الكيفية الحاصلة المذكورة أعلاه. فقد مثَّل أولوية النفوذ الاقتصادي في الزعامة على نفوذ الشرف والعرف والنسب القائم في القبيلة سابقاً. وأحدثت زعامته تغييرات في بنية مجتمع مدينة مكة القبلية، فقد قام بتوزيع سكانها حسب ملاءتهم المالية- الطبقية قرباً وإحاطةً بالكعبة (بطاح قريش) (أحاط بها بنو عبد مناف وعبد الدار ثم بنو أمية)، وبُعْداً عنها (ظاهر قريش). وفرض الربا- الفائدة بنسب عالية بلغت مئة بالمئة، وضاعفها عند عدم سدادها على أفراد قبيلته المقترضين لحاجات الزراعة المعيشية أو التجارة الصغيرة، وفرض ضريبة العشر والمكس والأرباح..، واقتدت بذلك القبائل في يثرب والطائف. لقد وُضِعت عملية تفكيك الأساس الاجتماعي لنظام القبلية موضع التطبيق.
كما أن ازدهار التجارة تاريخياً في مكة، يدل على أن الوساطة والتبادل التجاريين لم يكونا عفويين، وإنما خضعا للتنظيم، إذ أُنشِئت الأسواق الموسمية في الأشهر الحرم للتبادل التجاري الداخلي، وأسواق الحج، وفُرضت الضرائب على التجارة المحلية، ونُظمت معاملات الإيجار والأمانة وحقوق الانتفاع بالمراعي والمياه وعقد التحالفات المحلية. أما على صعيد العلاقات التجارية الخارجية، فقد عُقدت التحالفات مع الروم والفارسيين واليمنيين والحبشة على مستوى الملوك.
ـ7ـ
ظهرت في مكة نتيجة العوامل أعلاه، ما سمّي بالملأ من القوم، أو عليّة القوم، ومعها برزت الحاجة إلى إيجاد إطار تنظيمي جديد للمجتمع وعلاقات أفراده تبعاً لتوضعهم الطبقي ومستويات معيشتهم وتناقض مصالحهم، ويُمنَح من خلاله الملأُ الإطارَ الحقوقي والشرعي للحصول على الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية لاستغلال الفئات الأخرى، وزيادة ثرائهم. فأنشِئتْ دار الندوة في دار قصي بن كلاب، والتي منحتهم السلطة السياسية. لقد كانت الولاية على الندوة ولايةً على مكة. وعادت لقريش السقاية والحج والرفادة واللواء، مؤطَّرةً بسلطة الندوة، فكانت الهيئة السياسية الممثِّلة للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لدى مجتمع مكة، وبديلاً عن النظام القبلي المنحل، وأُقيمت بموازاتها، أجهزتها القمعية من حراس أحباش، وفيها تمت إدارة العمليات التنظيمية الداخلية والخارجية من مبادلات ومعاهدات وتحالفات تجارية وغير تجارية، ومشاورات السلم والحرب، وتنظيم الحج، والأمور الاجتماعية المتصلة بالزواج والبلوغ والاحتكام في النزاعات وسواها... فشكلت النواة الأولى للدولة الجديدة التي تبحث عن ظروف تاريخية مناسبة للإعلان عن نفسها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 922