حاجة للانعتاق الاشتراكية أبعد من مأوى وحاجات...
محمد المعوش محمد المعوش

حاجة للانعتاق الاشتراكية أبعد من مأوى وحاجات...

هاجر عشرات الآلاف من البلاد التي تحترق منذ سنين. والبلاد هذه، قبل الحرب، طافت بالمعطَّلين عن العمل، بالفقر، وانعدام فرص التطور المعروفة، أي: الوظيفة المرغوبة والاستقرار والحياة الاجتماعية التي رُوّج لها طوال العقود الماضي من قبل الإعلام وأفلامه ودعايته، ومن جملة ما روّج: السعي للسعادة ضمن نمط حياة النظام الرأسمالي نفسه، وبالتالي تثبيته.

ونفسها البلاد هذه خلال الحرب طافت بالضحايا وانعدام الأمان وازدياد الفقر والتشرد والموت المباشر. وما يحدث هو جزء وتعبير عن أزمة الرأسمالية العالمية في مركزها والأطراف، وهذا أصبح أكثر من مُثبت. ولكن في التصدي لهذا الواقع لا زال لدى الأغلبية من القوى السياسية الطامحة للتغيير خجلٌ ما في الإعلان عن أن الأزمة الحالية لا تجلب فقط الانهيار الاقتصادي، بل هي تقضي على الوجود العقلي للإنسان، وسلبه علّة وجوده، وما يعنيه من موت وجودي محقّق، أو أقله تخبط بين الأحداث وانفصاله عنها نحو حالة خَدَر أو اختناق مستدام.
فكون انهيار نمط الحياة المرّوج له سابقاً، أي: السعادة ضمن نمط علاقات السوق والعمل المأجور، وعزل الإنسان عن أي دور اجتماعي حقيقي تجاه البشرية، كل ذلك وضع الملايين في العالم أمام سؤال :«لماذا نعيش؟َ!».
التّصدي لهكذا إحداثيات، وإلى جانب الكلام عن رفع مستوى الحياة المادي وتعزيز قطاعات الإنتاج، وحتى الكلام عن ضرب الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتأميمها وغيرها من التوزيع العادل، أي: الاشتراكية في صيغة القرن الماضي، تتطلب إلى جانبها أن نمتلك جوهر طرح ماركس وإنجلز عن الاشتراكية في كونها إطلاق طاقات الحياة وضرب الاغتراب، وامتلاك شجاعة البلاشفة، ومفهوم لينين خاصة عن أن الاشتراكية هي إشراك الجماهير في إدارة الدولة والمجتمع، وبالتالي نقلهم من كونهم حطباً للحرب أو الفقر أو العمل المأجور الروتيني المميت، إلى كونهم بشراً ذوي أهداف كبرى تتخطى ذواتهم الفردية نحو البشرية ككل.
هكذا تغتني حياتهم بكل ما هو حولهم، لا أن تختصر حياتهم بوظيفة ووقت استجمام مرتبط بما يقدمه المجتمع الرأسمالي من أساليب تسلية «مسموحة»، أو حتى غير مسموحة من مخدرات أو إدمان الكحول، وإن لم تتوفر رفاهية هذه التسلية، فالدمار النفسي والعقلي والجسدي جاهز لكي يحتل المشهد. وهذا ليس خاصاً ببلد معين، بل هو شامل كل مجتمعات رأس المال القبيح.

البلاد المعيلة.. الباردة

في أحد مطارات دولة من الدول الأوروبية، يعمل شاب مرفوض من المجتمع الرأسمالي التابع من بين مئات الآلاف المرفوضين. هاجر الشاب إلى بلد اللجوء من بلد الحرب، يملك شهادات جامعية ولغة أجنبية لا بأس بها. فتحقق ما هو في أذهان الأغلبية أنه الحل الأنسب. استقبلته دولة اللجوء بسكن ومصروف شهري وإقامة شرعية فيها. كانت أوروبا هي الطموح لديه. طوال 4 سنوات من عمر الأزمة كان مستقراً «مادياً» وأمنياً؟ فلا حرب ولا جوع ولا أزمة طاقة أو صحة ولا ولا... اليوم هذا الشاب كما غيره يصرّح: إن هذه البلاد باردة، وجمالها الشكلي الذي نراه من بعيد تحول في داخلها إلى حياة جردتني من وجودي، ومعنى لحياتي. يُكمل ليقول: تحولت إلى آلة في وظيفة ومنزل وعزلة كبرى. لقد كبرت عشرين عاماً في 4 سنوات فقط.
لماذا لا يشعر هذا الإنسان بالرضا؟ فقد وصل إلى ما يطمح إليه الملايين! هذه المعاناة الانتقالية من بلاد التبعية إلى بلاد المركز لا تؤكد فقط أن ما يجب أن يتم طرحه اليوم هو: حياة جديدة للبشرية، والأغلبية جاهزة لتسمع هذا وتقبله، فهي تعرفه جيداً، ولكن لا زالت تمارس حلّه ضمن المتوفر لها، أو توقفت عن حلّه أساساً. بل هي أيضاً تؤكد أن بلاد التبعية والقوى التي تعاني هي أقرب إلى جوهر المسائل المطروحة أمام البشرية والإنسان في هذه المرحلة التاريخية من غيرها. هي أقرب إلى طرح المسائل الوجودية بوضوح أكبر. ذلك بسبب نضوج تناقضاتها بحدة أكبر وانكشاف أكبر، دون قدرة المنظومة السائدة على تمويهها كما في الغرب، أي: حسب الشهيد مهدي عامل: في كون بنياتنا بنيات رأسمالية رفضية، على عكس البنيات الرأسمالية التي هي بنيات رأسمالية استيعابية للتناقضات، أي: قادرة على تغطيتها شكلاً.
وهذا ما يعطيها موقعاً متقدماً في التاريخ الحالي للبشرية، على عكس ما يظهر للوعي في اللحظة الراهنة بأننا خارج الركب التاريخي كلّه.

لماذا إسقاطُ سلاحٍ فكري أساسيٌ؟

التخلي عن الموقع المتقدم لطرح الاشتراكية كنمط حياة جديد استجابة للمعاناة الشاملة، هو إسقاط لأسلحة أساسية في المعركة ضد الرأسمالية. خصوصاً أنها مدعومة اليوم بالتقدم التكنولوجي الحاصل طوال عقود من تراجع الحركة الاشتراكية في العالم القادر على دعم النمط الذي أكده ماركس: أن الاشتراكية تحتاج إلى تطور كبير في القوى المنتجة وارتفاع إنتاجيتها، وهو ما نراه اليوم في تطور الزراعة والذكاء الصناعي والاتصالات وعلوم الأحياء...
الشاب الذي يعمل في هذه الدولة الأوروبية التي تعتبر من أكثر الدول الأوروبية ارتفاعاً في مستوى المعيشة، هناك غيره من الآلاف القادرين على تأكيد هذه المعاناة، والملايين الملايين من الذين بقوا في بلادهم يؤكدون أيضاً عن رغبتهم بحياة أخرى.
إن النضال ضمن إحداثيات الرأسمالية، التي تعود عليها العقل سنين طويلة، حق كامل وضروري، ولكن إن سَمَح التاريخ والمجتمع بكسر البنية الرأسمالية من الضروري تلبية الدعوة التاريخية، فالكتلة التاريخية أكبر مما يبدو للبعض.

معلومات إضافية

العدد رقم:
904
آخر تعديل على الإثنين, 11 آذار/مارس 2019 12:26