«الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة»
إن كل فيلم بصورة أو بأخرى يخدم السياسة والصراع الطبقي، وحتى الأفلام التي تُلهي المشاهدين عن المشاكل الاجتماعية وعن تناقضات المجتمع تكون محاولة من خلالها لتنقل المشاهد إلى عالم الأوهام، هذه الأفلام تساعد الطبقات الرأسمالية في المجتمع الرأسمالي، على إجبار الجماهير على الطاعة والخضوع، وتقتل في الجماهير طاقة التمرد والرفض والبحث عن خيار أفضل.
ورغم ذلك، فقد ظهرت حركة مختلفة عن مثل هذه الأفلام في منتصف الخمسينات وبداية الستينات. ففي إيطاليا على سبيل المثال ظهر هذا الاتجاه السينمائي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انتقل عدد من السينمائيين الإيطاليين إلى الجناح اليساري، وبدأ السينمائيون يهتمون بالطبقة العاملة- ليس فقط فئة من المجتمع منتجة القيم والخيرات- بل لكونها القوة الحاسمة في النضال التحرري للكادحين ضد السيطرة الرأسمالية، كانت هذه الأفلام تسير بتوازٍ مع حركة المواجهة الجديدة التي تعرض للمجتمع الإيطالي الفقر الموجود وتجاهل السياسيين لأكبر شريحة من الشعب.
دائماً كان لا بد من الحقيقة أن تظهر، خاصة عندما يصور الفنان السينمائي الشعب الكادح- وطليعته- الطبقة العاملة، ويجسد في صور فنية نظرة وإحساس هذا الشعب إلى الأحداث الجارية، عندما يصبح النضال التحرري للكادحين معياراً اجتماعياً وأساساً للتحليل الفني للحياة المصورة. ويعبر الشيوعيون في الكرة الأرضية كلها عن إرادة وأفكار الطبقة العاملة لكون الطبقة العاملة هي القوة الأساسية التي تحدد التقدم الاجتماعي.
بدون هذه الحقائق، من المستحيل فهم العالم المعاصر ولا يستطيع الفن الواقعي أن يتطور بسرعة وبمستوى جيد إذا تجاوز الإنسان العامل، إذا لم يأخذ بعين الاعتبار دوره الحقيقي في التاريخ، وفي التطور الاجتماعي، وفي تقرير مصير الإنسانية.
«الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة»
مثل هذه الأفلام التي عالجت تناقضات الحياة، والنزعات ظهرت على الشاشة الإيطالية، وتفجر هذه التناقضات التي لا يستطيع النظام الرأسمالي حلها، فكفاح العمال والطلاب خلال سنوات الستينات أدى إلى جعل السينما الإيطالية تعمل في السياسة، مثل: فيلم «الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة» للمخرج اليو بترني، وفيلم «قضية فتى» للمخرج فرانشيسكو روزي، حصل هذان الفيلمان على جوائز في مهرجان «كان السينمائي» عام /1972/. وبكل بساطة كانت رسالتهم الأساسية، هي: تكوّن الوعي الذاتي لدى الطبقة العاملة وكفاح هذه الطبقة من أجل الوحدة.
وفي المقابل، كان البرجوازيون يحاربون تلك الأفلام واستمروا بالإنتاج والعمل على السينما التجارية «السوقية» وجذب اهتمام المشاهد بأية طريقة ومهما كانت بنية الفيلم، وليس لها هدف غير ذلك، تحاول أن تثير سخرية المشاهد أو اللعب على مشاعره وبطريقة ساذجة لأن الهدف النهائي الحصول على نقود المشاهد.
أبناء الواقعية الجديدة
مع استمرار السينمائيين السياسيين وأبناء الواقعية الجديدة بالعمل على تطور الأخلاق والمصائر البشرية، تشكلت لغة على أساس الرؤية كوسيلة لتثبيت المرئيات، فكانت الكلمات رموزاً لمعانٍ معينة، وتطورت اللغة مع تطور الإدراك والوعي.
ونشأ صراع بين التقدميين والبرجوازيين واستمر النظام الرأسمالي بضغوطه لإعاقة الفيلم السياسي، ومحاولة تكييفه مع متطلبات السوق التجارية وتشويه مضمونه النقدي الاجتماعي.
تعيق السينما السياسية آراء بعض السينمائيين أنفسهم وترددهم وتذبذبهم بين اليمين واليسار، خاصة في ظل حاجاتهم للمال لإنتاج أعمالهم دون أن يكونوا مقيدين بشرط البنوك، فكانوا يطلبون مساعدة رفاقهم لجمع تلك الأموال، ولكن يأتي في النهاية الرأسماليون أصحاب المال، وكثيراً ما كانوا يتحكمون بالمخرج بسبب عوزه المالي، ومع كل هذه الصعوبات والعقبات التي تقف على طريق الإنتاج السنيمائي الحر والنظيف، فهناك فنانون في البلدان الرأسمالية يتحدون الريح والعواطف ليعالجوا المواضيع والمشاكل الاجتماعية التي تقلق الناس، وتعيق حياتهم لتجعل منهم أفراداً مستهلكين فقط.
نهايته السجن
لقد أنتج المخرج أوغو غريغوريتي فيلمه «أومكرون» الذي كانت تمتزج فيه الحقيقة مع الخيال لتعميق طرح مشكلة حياة العمال في ظروف الاستغلال الرأسمالي، وكان هذا الفيلم من الأفلام القليلة حول الطبقة العاملة في إيطاليا ومتطلباتها الرئيسة بل البسيطة للعيش بكرامة وضمان حقوقها في المجتمع، فكانت النتيجة أن فيلمه لم يعرض على الشاشات وحاربته الصحافة البورجوازية أيضاً، لتكون نهايته في السجن لعدم مقدرته على تسديد أقساط البنك، هكذا دفع ثمن وطنيته وإخلاصه لشعبه. مع هذا استمر السينمائيون التقدميون مع تلاميذ الواقعية الجديدة بالمضي قدماً في صنع أفلام جادّة وهادفة، وفي خلق فنٍ رفيعٍ يعبر عن رفض الفنان للسينما التجارية والابتعاد عن السينما الرخيصة التي تكرر ذاتها. انتشرت السينما السياسية في بلدان أخرى، ففي فرنسا أخرج المخرج الفرنسي كوستا غافراس فيلم «زد /z/» ويعد من أفضل الأفلام السياسية، فطرح الفيلم جريمة قتل نائب برلماني يساري في اليونان، والتحقيق الذي جرى بعد ذلك أثبت أن لضباط الجيش الذين يتحكمون في مصير البلاد بصورة ديكتاتورية علاقة بجريمة القتل.
اجتذب الفيلم الجماهير الواسعة من المشاهدين بسبب وضوح الصراع فيه. ويعد هذا الفيلم السياسي الطليعي في السينما الفرنسية، وابتدأت المؤسسات الفرنسية الأخرى بإنتاج أفلام ذات طابع سياسي.
في ألمانيا أيضاً أخرج المخرج الشاب بطرس فليش مان فيلمه «الكارثة»، والمخرج كان ينتمي إلى مدرسة «السينما الفنية الألمانية» وحصل على مشاهدة كبيرة خاصةً في الأوساط الشبابية، فالفيلم يصور تمرد الشباب الذين يرفضون الحياة على الطريقة البرجوازية وصور غليان الشهوات السياسية في الاجتماعات والمظاهرات والصراع السياسي ضد آفاق العقلية البرجوازية المتسلطة، وكان من الطبيعي أن حاولت البرجوازية خنق هذا الفيلم للحيلولة دون وصوله إلى المشاهد. فحاربت الصحافة المخرج بطرس وكاتب سيناريو الفيلم وهو كاتب تقدمي يدعي: مارنين فالزبر، وبشكل همجي بل وعدائي أيضاً.
وشمل انتشار الفيلم السياسي السويد، فقد كانت السويد تحت تأثير انغمار بيرغمان: وظهرت في السويد اتجاهات أطلق عليها النقاد والسينمائيون اسم الصراع بين اتجاه بيرغمان من جهة، وبين اتجاه السينمائيين الشباب الذين يحاولون إنتاج أفلام ذات طابع اشتراكي تنطلق من واقعهم وتعالجه.
نعود إلى وضع السينما الإيطالية مع تغير موازين القوى الدولية، سقط الفيلم السياسي في عام 1978 وكان صدمة لكل السينمائيين التقدميين وتحدثت مجلة «الإيسبريسو» في عام 1980 بمقالة تقول من خلالها: إنه لا توجد أفلام، وإن وجدت فهي أقل ما يمكن، وأغلبها يتحدث عن المافيا والإرهاب والفاتيكان، وإذا أخرجنا فيلماً شعبياً يصور الواقع المؤلم لدى الطبقات الفقيرة وفي الأحياء الشعبية الفقيرة، فإن الإقبال على مثل هذه الأفلام يكون قليلاً لدى السينمائيين ومن قبل المشاهدين العاديين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 904